هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كلّ مولود يولد على الفطرة … " الحديث، متّفقٌ عليه، وقد نصّ على هذا في حديث آخر، فقد أخرج المصنّف من حديث عياض بن حمار - رضي الله عنه - مرفوعًا، قال:"إني خلقت عبادي حُنفاء كلّهم، وإنهم أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم … " الحديث، وكأن معنى هذا الحديث: أنه لَمّا مال إلى ما يُتَناوَل بالجِبِلّة والطبع، وما لا ينشا عنه مفسدة، وهو اللبن، وعَدَلَ عمّا ليس كذلك مما يُتوقَّع منه مفسدةٌ أو من جنسه، وهي إذهاب العقل الموصل للمصالح، صَوَّب الملك فعله ودعا له، كما قال في الرواية الأخرى:"أَصَبْتَ أصاب الله بك".
ويحتمل أن يكون من باب التفاؤل والتشبيه لَمّا كان اللبن أوّل شيء يدخل جوف الصبيّ، ويشقّ أمعاءه، فسُمّي بذلك فطرة. انتهى كلام القرطبيّ - رَحِمَهُ اللهُ - (١).
وقال القاضي عياض - رَحِمَهُ اللهُ -: أصل الفطرة في كلام العرب: الخِلْقة، ومنه {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}[الأنعام: ١٤]؛ أي: خالقهما، وقيل: الفطرة: الا بتداء، وقوله:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}[الروم: ٣٠]؛ أي: أقم وجهك للدين الذي فطر الله الناس عليه، قبل الْجِبِلّة التي جَبَلهم عليها من التهيّؤ لمعرفة الله تعالى والإقرار به، وقيل: ما أخذ الله عليهم في ظهر آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - من الاعتراف بربوبيّته.
وقيل: معناه الاستقامة؛ لأن الحنيف عند بعضهم المستقيم، وسُمِّي الأحنف على القلب، كما سُمّي اللديغ سَلِيمًا، والحنيفيّة المستقيمة عن الميل لأديان أهل الشرك، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١)} [الأنعام: ١٦١]، وكما قال تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا}[الروم: ٣٠].
وقيل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كلُّ مولود يولد على الفطرة" متّفقٌ عليه، هذه الأقوال كلّها، وقيل: ما كُتب عليه في بطن أمه، وقيل: الإسلام.
ويحتمل أن المراد بالفطرة في قوله:"اخترتَ الفطرة" بعض هذه المعاني: الإسلام، أو الاستقامة، أو الحنيفيّة، ويكون أيضًا لَمّا كان اللبن كلّه