(نَحْوَ أَرْبَعِينَ) قال ابن الملقّن رحمهُ اللهُ: ظاهره أن ذلك للتقريب، لا للتحديد، لكن لا بدّ من تأويله على عدم التساوي في الضرب، والآلة المضروب بها، فإن الحدود للتحديد، وإن كان القرطبيّ نقل عن طائفة من علماء أصحابهم وغيرهم أن ذلك إنما كان منه - صلى الله عليه وسلم - على وجه التعزير والأدب، وأنه انتهى في ذلك إلى أربعين، وحسّنه، فلا يوافَق عليه. انتهى كلام ابن الملقّن (١).
وقال القرطبيّ رحمهُ اللهُ: قوله: "فجلده بجريدتين نحو أربعين"، وفي الرواية الأخرى:"جلد في الخمر بالجريد والنعال أربعين": هذه الروايات تدل على أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَحُدّ في الخمر حدًّا محدودًا، وإنما كان ذلك منه تعزيرًا وأدبًا، لكن انتهى في ذلك إلى به أربعين. ومما يدلّ على ذلك ما رواه أبو داود عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُتي برجل قد شرب، فقال:"اضربوه"، قال: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه. ثم قال لأصحابه:"بَكِّتُوه"، فأقبلوا عليه يقولون: أما اتقيت الله؟! أما استحييت من رسول الله؟! وهذا كله يدلّ: على أن ذلك كله أدب، وتعزير. ولذلك قال عليّ - رضي الله عنه -: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يَسُنَّه؛ أي: لم يحدَّ فيه حدًّا، ولذلك اجتهدت الصحابة فيه، فألحقوه بأخف الحدود، وهو حدُّ القذف. هذا قولُ طائفةٍ من علماء أصحابنا وغيرهم، وهو ظاهرٌ من الأحاديث التي ذكرناها. غير أنه يردّ عليهم أن يقال: هذا معارَضٌ بوجهين:
أحدهما: أن عليّ بن أبي طالب قد قال: جلد رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين، وأبو بكرٍ أربعين، وجلد علي بحضرة عثمان، والصحابة - رضي الله عنهم - أربعين، ودوامهم على مراعاة هذا العدد يدل على أنَّه حدٌّ محدود، ولو كان تعزيرًا لاختَلف بحسب اجتهاد كلّ واحدٍ منهم.
وثانيهما: أن الأُمَّة مُجمعون على أنَّ الحدَّ في الخمر أحد العددين؛ إمَّا أربعون، وإمَّا ثمانون. "قال القاضي عياض: أجمع المسلمون على وجوب الحدِّ في الخمر، وكيف تُجْمِعُ الأمَّةُ غلى خلاف ما جاء به النبيّ - صلى الله عليه وسلم -؟!.