جرى كفاية، ونحن نخرج الغلة وندير الطواحين ونعمر الأسواق بالخبز ونرخص الأسعار على الناس ونبيع الخبز رطلا بدرهم» فقال:«ما يقنع الناس منكم بهذا»، فقالوا: رطلين، فأجابهم بعد الضراعة له ووفوا بالشروط.
وتدارك الله تعالى الخلق وأجرى النيل وسكنت الفتن وزرع الناس وتلاحق الخير وانكشفت الشدة وفرجت الكربة.
وخبر هذه الغلوات مشهور، وفى هذا القدر من التعريف بها كفاية، والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون.
ثم وقع فى أيام الخليفة الآمر بأحكام الله ووزارة الأفضل غلاء، بلغ القمح كل مائة أردب بمائة وثلاثين دينارا، فتقدم إلى القائد ابن عبد الله بن تامك (١) الملقب بعد ذلك بالمأمون البطائحى أن يدبر الحال، فختم على مخازن الغلات وأحضر أربابها وخبرهم فى أن تبقى غلاتهم تحت الختم إلى أن يصل المغل الجديد أو يفرج عنها، وتباع بثلاثين دينارا كل مائة أردب، فمن أجاب أفرج عنه وباع بالسعر المذكور، ومن لم يجب أبقى الختم على حواصله وقدّر ما يحتاج إليه الناس فى كل يوم من الغلة، وقدر الغلال التى أجاب التجار إلى بيعها بالسعر المعين وما تدعو إليه الحاجة بعد ذلك يباع من غلات الديوان على الطحانين بهذا السعر، فلم يزل الأمر على ذلك إلى أن دخلت الغلة الجديدة فانحلت الأسعار، واضطر أصحاب الغلة المخزونة إلى بيعها خشية من السوس فباعوها بالثمن اليسير وندموا على مافاتهم بالسعر الأول.
ثم وقع غلاء شنيع وقحط ذريع فى أيام الحافظ لدين الله بوزارة الأفضل بن وحش إلا أنه لم يستمر فإن الأفضل ركب إلى الجامع العتيق بمصر، وأحضر كل من يتعلق به ذكر الغلة، وأدّب جماعة من المحتكرين ومن يزيد فى الأسعار ووظّف عليهم القيام بما يحتاج إليه فى كل يوم، وباشر الأمر بنفسه، وأخذ فيه بالجد فلم يسع أحدا خلافه. ولم يزل الحال كذلك إلى أن منّ الله
(١) هكذا فى الأصل وفى إغاثة الأمة (أبى عبد الله بن فاتك) ص ٢٧.