فالجواب أن هذه المسألة ليست أول مسألة يكون الدليل فيها واضحًا ويحصل فيها الخلاف، ما أكثر المسائل التي فيها الخلاف والأدلة فيها واضحة، وما أكثر المسائل التي يستدل قائلوها بأدلة من القرآن والسنة وليس فيها دليل؛ لأن الله عز وجل يؤتي فضله مَن يشاء، فكما أن هذا غني وهذا فقير، وهذا حسن الخُلُق وهذا سيئ الخُلُق، وهذا طويل وهذا قصير، وهذا جميل وهذا قبيح، فكذلك في الفهم، وإلا فإن الإنسان بأدنى تأمل يتبين له أن قصة هند لا تدل على الحكم ( ... ) لا سيما أن الصورة التي وقعت فيها لا يَحْكُم بها على الغائب مَن استدل بها؛ لأنهم لا يحكمون على الغائب إلا ببينة؛ لأنه لا يمكن ثبوت الحق مع غَيْبَة المدَّعَى عليه إلا ببينة؛ لأن الإقرار متعذِّر ليس حاضرًا هو، فلا بد من البينة، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلبها.
يقول:(وإن ادَّعَى على حاضرٍ في البلدِ غائب عن مَجْلسِ الحُكم).
قوله:(إن ادَّعى) يعني إنسان، (على حاضر في البلد) لكن غائب عن مجلس الحكم، مثل الرجل في أطراف البلد المدَّعَى عليه غائب عن مجلس الحكم فادَّعَى بأنه يطلبه ألف درهم، قال: أنا أطلب فلانًا ألف درهم، وفلان في طرف البلد، وأتى المدَّعِي ببينة، فهنا لا نسمع الدعوى، ولا نسمع البينة.
يقول القاضي للمدَّعِي: اذهب، لا أسمع دعواك، أَحْضِر خصمك لأنظر في الدعوى، لماذا؟ لأن المدَّعَى عليه الآن لا يصعب إحضاره، بكل سهولة يذهب إليه ويقول: يلَّا أنا وأنت إلى الحاكم، أو يستعدي عليه الشُّرَط، أو ما أشبه ذلك، المهم أن إحضار المدَّعَى عليه في هذه الصورة صعب؟ غير مُتَعَذِّر ولا مُتَعَسِّر.
فلهذا لا تُسْمَع الدعوى ولا البينة؛ لأن سماع الدعوى ليس فيه إلا إضاعة الوقت، وشَغْل القاضي بما لا فائدة فيه، القاضي لو سمع الدعوى الآن وقال: نعم أشوف أيش الدعوى، ماذا يستفيد؟ هل يمكن يقضي عليه؟ ! ما يمكن يقضي عليه؛ لأنه حاضر في البلد.