ولا يقال: لعل الرسول صلى الله عليه وسلم حكم بعلمه في قضية أبي سفيان، وأن أبا سفيان كان مشهورًا في قومه بالبخل؛ لأننا قلنا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مَا أَسْمَعُ»(٤)، كما مر علينا، فحديث هند ليس فيه دليل على القضاء على الغائب.
فيما إذا قلنا بجواز القضاء على الغائب سواء مطلقًا -كما هو المذهب- أو بحسب القرائن -كما هو المختار عندي- فإنه يجب أن نحتاط للمُدَّعَى عليه، كيف نحتاط؟ أن نقول للمُدَّعِي: احلف أنه ما قضاك، لماذا نُحَلِّفُه؟ لاحتمال القضاء، نقول: الشهود نعم شهدوا بأصل الحق، لكن فيه احتمال أنه قضاك من غير علم الشهود، فاحتياطًا لحق الغائب نقول: احلف أنه لم يَقْضِكَ.
وفي العين، إذا كان المدَّعَى به عينًا، نحتاط أيضًا ونقول للمُدَّعِي: نحن نحكم لك، لكن نريد منك كفيلًا مليئًا أو رَهْنًا مُحْرِزًا فنسلمك العين، إذن نطلب منه أيش؟ إما كفيلًا مليئًا وإما رَهْنًا مُحْرِزًا.
كيف كفيل مليء؟ نقول: جيب واحدًا غنيًّا يضمنك أنه إذا تَبَيَّن أن العين ليست لك تُسَلِّمها أو تُسَلِّم بدلها، إذا لم تجد أعطنا رهنًا من مالك رهنًا يُحْرِز يكفي لإيجاد بدل هذه العين المدَّعَى بها ونسلِّمك العين، وفي هذا حماية لحق مَن؟ لحق المدَّعَى عليه؛ لاحتمال أن تكون هذه الدعوى قد انتهى مفعولها.
الخلاف الآن في قضاء الغائب:
أولًا: في أصل المسألة قولان لأهل العلم؛ قول أنه لا يُحْكَم حتى يحضر، وقول آخر أنه يُحْكَم وإن لم يحضر. وعرفتم أدلة كل قول، ورجَّحْنا أنه يُحْكَم عليه بالقرائن، إذا دلَّت القرائن على صدق المدَّعِي حُكِم على المدَّعَى عليه.
وفي هذه الحال لا بد أن نحتاط للمُدَّعَى عليه، فإن كان المدَّعَى به دَيْنًا حلَّفْنَاه أنه لم يَقْضِه، وإن كان عينًا قلنا له: العين تبقى محبوسة ولا نسلمك إياها إلا بكفيل مليء أو رهن مُحْرِز.-