أما النظر فقالوا: إنه لا يمكن أن يُحْكَم لهذا الحاضر على الغائب؛ لاحتمال أن يكون قد قضاه حقه، فإذا قال: أنا أدعي عليه بمئة ريال، وأتى بالشهود، أتى بالشهود؟ أليس من الجائز أن يكون الخصم المدَّعَى عليه قد أوفى هذه المئة؟ جائز، فإذا كان جائزًا فإنه إذا وُجِدَ الاحتمال بطل الاستدلال، ما دام وُجِدَ الآن احتمال أن يكون قد قضاها، فهذه البينة صادقة فيما شهدت به، لكن احتمال القضاء وارد، يعني يبطل الحكم، بمعنى إذن يجب الانتظار في الحكم حتى ننظر ما عنده.
والحقيقة أن القولين كل منهما له وجهة نظر، وعلى هذا فالذي أرى أنه يُرجَع إلى رأي الحاكم في هذه المسألة، قد يجد الحاكم من القرائن ما يقتضي الحكم على الغائب؛ لكون هذا المدَّعِي رجلًا ثقةً عدلًا لا يمكن أن يدعي ما ليس له، والمدَّعَى عليه بخلاف ذلك، يمكن أنه رجل هارب من القضاء إلى بلد آخر، أو مُسْتَتِر لِئَلَّا يُعْلَم به، فإذا كان عنده من القرائن ما يدل على صحة دعوى المدَّعِي فليحكم بذلك، إذا لم يكن عنده قرائن فالواجب أن يُمْسِك ولا يحكم حتى يَنظر حجة الخصم؛ لاحتمال أنه قضاه.
فإن قلت: نحتاج إلى الجواب عن حديث مَن؟ هند بنت عتبة.
فالجواب عن ذلك سهل جدًّا، أن يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أفتاها ولم يحكم لها، فهي فتوى، والفتوى غير الحكم، ويدل على أن ذلك ليس بحكم؛ أولًا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يطالبها بالبيِّنة، ولو كان من باب الحكم .. أيش؟ لطالبها بالبينة؛ لأن البينة على المدَّعِي، فلما لم يطلبها عُلِمَ أنه أفتاها بمقتضى قولها فقط، فتوى.
ثانيًا: أن ذلك كان في مكة، وكان أبو سفيان حاضرًا في مكة ولم يَخْتَفِ، فلو كان قضاءً لأحضره النبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا أجاب النووي رحمه الله -وهو جواب صحيح- ما دام أبو سفيان حاضرًا ولم يختفِ، فلو كان قضاء لقال: أين أبو سفيان؟