للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث / الرقم المسلسل:

قَالَ: والطرف الثاني: قول منْ وَقَفَ صحة إيمان كل أحد عَلَى معرفة الأدلة، منْ علم الكلام، ونُسب ذلك لأبي إسحاق الإسفرايني، وَقَالَ الغزالي: أسرفت طائفة، فكفروا عوام المسلمين، وزعموا أن منْ لم يعرف العقائد الشرعية، بالأدلة التي حرروها، فهو كافر، فضيقوا رحمة الله الواسعة، وجعلوا الجنة مختصة بشرذمة يسيرة منْ المتكلمين، وذكر نحوه أبو المظفر ابن السمعانيّ، وأطال فِي الرد عَلَى قائله، ونقل عن أكثر أئمة الفتوى أنهم قالوا: لا يجوز أن تكلف العوام اعتقاد الأصول بدلائلها؛ لأن فِي ذلك منْ المشقة أشد منْ المشقة فِي تعلم الفروع الفقهية.

قَالَ: وأما المذهب المتوسط، فذكره، وسأذكره مُلَخَّصًا بعد هَذَا.

وَقَالَ القرطبيّ فِي "المفهم" فِي شرح حديث: "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم"، الذي تقدم شرحه فِي أثناء "كتاب الأحكام"، وهو فِي أوائل "كتاب العلم" منْ "صحيح مسلم": هَذَا الشخص الذي يبغضه الله، هو الذي يقصد بخصومته مدافعة الحق، ورده بالأوجه الفاسدة، والشُّبَه الموهمة، وأشد ذلك الخصومة فِي أصول الدين، كما يقع لأكثر المتكلمين، المعرضين عن الطرق التي أرشد إليها كتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وسلف أمته، إلى طرق مبتدعة، واصطلاحات مخترعة، وقوانين جدلية، وأمور صناعية، مدار أكثرها عَلَى آراء سوفسطائية، أو مناقضات لفظية، ينشأ بسببها عَلَى الآخذ فيها شُبَهٌ، ربما يعجز عنها، وشكوك يذهب الايمان معها، وأحسنهم انفصالا عنها أجدلهم، لا أعلمهم، فكم منْ عالم بفساد الشبهة، لا يقوى عَلَى حلها، وكم منْ منفصل عنها، لا يدرك حقيقة علمها، ثم إن هؤلاء المتكلّمين قد ارتكبوا أنواعا منْ المحال، لا يرتضيها الْبُلْهُ، ولا الأطفال، لَمَّا بحثوا عن تحيز الجواهر، والأكوان، والأحوال، ثم إنهم أخذوا يبحثون فيما أمسك عنه السلف الصالح، ولم يوجد عنهم بحثٌ واضح، وهو كيفية تعلقات صفات الله تعالى، وتعديدها، واتحادها فِي نفسها، وهل هي الذات أو غيرها؟، وفي الكلام، هل هو متحد، أو منقسم؟، وعلى الثاني، هل ينقسم بالنوع، أو الوصف؟، وكيف تعلق فِي الأزل بالمأمور، مع كونه حادثا؟، ثم إذا انعدم المأمور، فهل يبقى ذلك التعلق؟، وهل الأمر لزيد بالصلاة مثلا، هو نفس الأمر لعمرو بالزكاة؟ إلى غير ذلك منْ الأبحاث المبتدعة، التي لم يأمر الشارع بالبحث عنها، وسكت عنها الصحابة -رضي الله عنهم-، ومن سلك سبيلهم، بل نهوا عن الخوض فيها؛ لعلمهم بأنه بحث عن كيفية ما لا تعلم كيفيته بالعقل، لكون العقول لها حد تقف عنده، وهو العجز عن التكييف، لا يتعدّاه، ولا فرق بين البحث عن كيفية الذات، وكيفية الصفات، ولذلك قَالَ العليم الخبير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}