واجبٍ المعرفةُ، كإمام الحرمين، واستَدَلّ بأنه لا يتأتى الإتيان بشيء منْ المأمورات، علىَ قصد الامتثال، ولا الانكفاف عن شيء، منْ المنهيات عَلَى قصد الانزجار، إلا بعد معرفة الآمر والناهي. واعتُرِض عليه بأن المعرفة لا تتأتى إلا بالنظر والاستدلال، وهو مقدمة الواجب، فيجب، فيكون أول واجبٍ النظر، وذهب إلى هَذَا طائفة، كابن فورك.
وتُعُقّب بأن النظر ذو أجزاء، يترتب بعضها عَلَى بعض، فيكون أول واجب جزأ منْ النظر، وهو محكيّ عن القاضي أبي بكر بن الطيب، وعن الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني، أول واجب القصد إلى النظر، وجمع بعضهم بين هذه الأقوال، بأن منْ قَالَ: أول واجب المعرفة، أراد طلبا وتكليفا، ومن قَالَ: النظر، أو القصد أراد امتثالاً؛ لأنه يُسَلِّم أنه وسيلة إلى تحصيل المعرفة، فيدل ذلك عَلَى سبق وجوب المعرفة.
قَالَ: وَقَدْ ذكرتُ فِي "كتاب الإيمان" منْ أعرض عن هَذَا منْ أصله، وتَمَسَّكَ بقوله تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}[الروم: ٣٠] , وحديث:"كلُّ مولود يولد عَلَى الفطرة … "، فإن ظاهر الآية والحديث أن المعرفة حاصلة بأصل الفطرة، وأن الخروج عن ذلك يطرأ عَلَى الشخص؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:"فأبواه يَهُوِّدانه، وينصرانه"، وَقَدْ وافق أبو جعفر السمناني، وهو منْ رءوس الأشاعرة عَلَى هَذَا، وَقَالَ: إن هذه المسألة بقيت فِي مقالة الأشعري، منْ مسائل المعتزلة، وتفرع عليها أن الواجب عَلَى كل أحد معرفة الله بالأدلة الدالة عليه، وأنه لا يكفي التقليد فِي ذلك. انتهى.
قَالَ: وقرأت فِي جزء منْ كلام شيخ شيخنا الحافظ صلاح الدين العلائي: ما ملخصه: إن هذه المسألة مما تناقضت فيها المذاهب، وتباينت بين مُفَرِّط، ومُفْرِط، ومتوسط:
فالطرف الأول: قول منْ قَالَ: يكفي التقليد المحض فِي إثبات وجود الله تعالى، ونفي الشريك عنه، وممن نسب إليه إطلاق ذلك عبيد الله بن الحسن العنبري، وجماعة منْ الحنابلة، والظاهرية، ومنهم منْ بالغ، فَحَرَّم النظر فِي الأدلة، واستند إلى ما ثبت عن الأئمة الكبار، منْ ذم الكلام كما سيأتي بيانه.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا المذهب هو الحق الذي كَانَ عليه السالف الصالح، كما سبق فِي كلام القرطبيّ، ويأتي أيضًا، فليس فيه تفريط، كما يدلّ عليه كلام العلائيّ هَذَا، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتحيّر بالاعتساف، ونسأل الله تعالى أن يهدينا إلى سواء السبيل.