للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث / الرقم المسلسل:

[الشورى: ١١]، ومن توقف فِي هَذَا، فليعلم أنه إذا كَانَ حُجِب عن كيفية نفسه، مع وجودها، وعن كيفية إدراك ما يدرك به، فهو عن إدراك غيره أعجز.

وغاية علم العلماء، وإدراك عقول الفضلاء أن يقطعوا بوجود فاعل لهذه المصنوعات، منزه عن الشبيه، مقدس عن النظير، متصف بصفات الكمال.

ثم متى ثبت النقل، وأخبرنا الصادقون عنه بشيء منْ أوصافه، وأسمائه قبلناه، واعتقدناه، وما لم يتعرّضوا له، سكتنا عنه، وتركنا الخوض فيه، وهذه طريقة السلف، وما سواها مَهَاوٍ، وتَلَف، ويكفي فِي الردع عن الخوض فِي طرق المتكلمين، ما قد ورد فِي ذلك عن الأئمة المتقدمين، فمن ذلك قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: منْ جعل دينه غَرَضًا للخصومات، أكثر الشغل، والدين قد فُرغ منه، ليس بأمر يؤتكف عَلَى النظر فيه. وَقَالَ مالك بن أنس رحمه الله تعالى: ليس هَذَا الجدال منْ الدين فِي شيء، وَقَالَ: كَانَ يقال: لا تمكّن زائغ القلب منْ أذنك، فإنك لا تدري ما يَعلق منْ ذلك. وَقَالَ الشافعيّ رحمه الله تعالى: لأن يُبتلَى العبد بكلّ ما نهى الله عنه ما عدا الشرك خير له منْ أن ينظر فِي علم الكلام، وإذا سمعت منْ يقول: الاسم هو المسمّى، أو غير المسمّى، فاشهد أنه منْ أهل الكلام، ولا دين له. قَالَ: وحكمي فِي أهل الكلام أن يُضربُوا بالجريد، ويُطاف بهم فِي العشائر، والقبائل، ويقال: هَذَا جزاء منْ ترك الكتاب والسنّة، وأخذ فِي الكلام. وَقَالَ الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: لا يُفلح صاحب الكلام أبدًا، علماء الكلام زنادقة. وَقَالَ ابن عقيل: قَالَ بعض أصحابنا: أنا أقطع أن الصحابة -رضي الله عنهم- ماتوا، وما عرفوا الجوهر والعرض، فإن رضِيت أن تكون مثلهم فكن، وإن رأيت طريقة المتكلّين أولى منْ طريقة أبي بكر، وعمر، فبئسما رأيته. قَالَ: وَقَدْ أفضى هَذَا الكلام بأهله إلى الشكوك، وبكثير منهم إلى الإلحاد، وببعضهم إلى التهاون بوظائف العبادات، وسبب ذلك إعراضهم عن نصوص الشارع، وتطلبهم حقائق الأمور منْ غيره، وليس فِي قوة العقل ما يدرك ما فِي نصوص الشارع منْ الحكم التي استأثر بها، ولو لم يكن فِي الجدال، إلا أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قد أخبر أنه الضلال، كما قَالَ فيما خرّجه الترمذيّ: "ما ضلّ قوم بعد هُدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل"، وَقَالَ: إنه صحيح (١).

قَالَ: وَقَدْ رجع كثير منْ أئمة المتكلّمين عن الكلام، بعد انقضاء أعمار مديدة، وآماد بعيدة، لَمّا لطف الله تعالى بهم، وأظهر لهم آياته، وباطن برهانه، فمنهم: إمام


(١) وَقَالَ الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: حسن. انظر "صحيح الجامع الصغير" ٢/ ٩٨٤.