للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وسدرة المنتهى وشجرة الزقوم وليلة القدر وليلة الوباء والملائكة والشياطين والمؤمنين والكفار والأبرار والفجار والحر والبرد والداء والدواء والآلام واللذات والأحزان والمسرات واستخرج سبحانه من بين ما هو من أحب الأشياء إليه من أنواع العبوديات والتعرف إلى خلقه بأنواع الدلالات ولولا خلق الشياطين والهوى والنفس الأمارة لما حصلت عبودية الصبر ومجاهدة النفس والشيطان ومخالفتهما وترك ما يهواه العبد ويحبه لله فإن لهذه العبودية شأنا ليس لغيرها ولولا وجود الكفار لما حصلت عبودية الجهاد ولما نال أهله درجة الشهادة ولما ظهر من يقدم محبة فاطره وخالقه على نفسه وأهله وولده ومن يقدم أدنى حظ من الحظوظ عليه فأين صبر الرسل وأتباعهم وجهادهم وتحملهم لله أنواع المكاره والمشاق وأنواع العبودية المتعلقة بالدعوة وإظهارها لولا وجود الكفار وتلك العبودية تقتضي علمه وفضله وحكمته ويستخرج منه حمده وشكره ومحبته والرضا عنه يوضحه الوجه الحادي والعشرون أنه قد استقرت حكمته سبحانه أن السعادة والنعيم والراحة لا يوصل إليها إلا على جسر المشقة والتعب ولا يدخل إليها إلا من باب المكاره والصبر وتحمل المشاق ولذلك حف الجنة بالمكاره والنار بالشهوات ولذلك أخرج صفيه آدم من الجنة وقد خلقها له واقتضت حكمته أن لا يدخلها دخول استقرار إلا بعد التعب والنصب فما أخرجه منها إلا ليدخله إليها أتم دخول فلله كم بين الدخول الأول والدخول الثاني من التفاوت وكم بين دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في جواد المطعم بن عدي ودخوله إليها يوم الفتح وكم بين راحة المؤمنين ولذتهم في الجنة بعد مقاساة ما قبلها وبين لذتهم لو خلقوا فيها وكم بين فرحة من عافاه بعد ابتلائه وأغناه بعد فقره وهداه بعد ضلاله وجمع قلبه بعد شتاته وفرحة من لم يذق تلك المرارات وقد سبقت الحكمة الإلهية أن المكاره أسباب اللذات والخيرات كما قال تعالى: {تِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} .

وربما كان مكروه النفوس إلى ... محبوبها سببا ما مثله سبب

يوضحه الوجه الثاني والعشرون أن العقلاء قاطبة متفقون على استحسان أتعاب النفوس في تحصيل كمالاتها من العلم والعمل الصالح والأخلاق الفاضلة وطلب محمدة من ينفعهم حمده وكل من كان أتعب في تحصيل ذلك كان أحسن حالا وأرفع قدرا وكذلك يستحسنون أتعاب النفوس في تحصيل الغنى والعز والشرف ويذمون القاعد عن ذلك وينسبونه إلى دناءة الهمة وخسة النفس وضعة القدر:

دع المكارم لا تنهض لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

وهذا التعب والكد يستلزم آلاما وحصول مكاره ومشاق هي الطريق إلى تلك الكمالات ولم يقدحوا بتحمل تلك في حكمة من يحملها ولا يعدونه عائبا بل هو العقل الوافر ومن أمر غيره به فهو حكيم في أمره ومن نهاه عن ذلك فهو سفيه عدو له هذا في مصالح المعاش فكيف بمصالح الحياة الأبدية الدائمة والنعيم المقيم كيف لا يكون الآمر بالتعب القليل في الزمن اليسير الموصل إلى الخير الدائم حكيما رحيما محسنا ناصحا لمن يأمره وينهاه عن ضده من الراحة واللذة التي تقطعه عن كماله ولذته ومسرته الدائمة هذا إلى ما في أمره ونهيه من المصالح العاجلة التي بها سعادته وفلاحه وصلاحه ونهيه عما فيه

<<  <   >  >>