ففكرة حصر التهمة على أهل المحلة إذا صلحت على أهل القرى والبادية حيث إنهم لا يستطيعون معرفة القاتل أو في إمكانهم ذلك، فإنها لا تصلح في مجتمع الحضر والمدن إلا في حدود ضيقة، ومع تعقيد الحياة وتطور أساليب الجريمة تقل جدوى حصر التهمة على أهل المحلة- وإلا فكيف نفعل بالقتلى الذين يوجدون في الطرقات أو في دور الحكومة أو في الدور الجديدة أو العمارات التي لم تسكن بعد، فهل ضمان كل ذلك في بيت المال؟.
فليس أرجح من ذلك إلا القول بأنه إذا دلت أمارات الاتهام على شخص أو أشخاص جاز للأولياء أن يحلفوا أيمان القسامة طالما أن ظنهم قد وصل أغلبه أو تيقنوا من أنه القاتل.
أما إذا لم يكن هناك أولياء، أو وجدوا ولم يرضوا بالحلف تورعا أو قصدا وعلم القاضي أن المتهم بما تدل عليه حاله وبشهادة القرائن التي لم يستطع المتهم أن يدحضها وقد حاصرته من كل وجه، كما لم يستطع أن يقدم أسبابا معقولة تلقي ظلالا من الشك على ارتكابه الجناية - وهذا ما يحدث كثيرا في الجرائم في عصرنا الحاضر.
أقول: فإن قول المجيزين بالأخذ بالقرائن أوجه وأولى بالقبول. وفرق كبير بين قولنا أن القرائن لا تصلح دليلا للإثبات وبين عدها دليلا مع فسح المجال للمتهم كي يضعف دلالتها أو يشكك في قوتها.
ومن ثم فإن القرائن تأتي في مرحلة متأخرة في نظام إثبات جرائم القصاص في الفقه الإسلامي، إذ إن الأدلة الأصلية- أعني الإقرار والبينة- مقدمة، ثم توجه أيمان القسامة عند نقصان الأدلة أو شهادة القرائن بحضور الأولياء، ثم القرائن عند انعدام الطريقين المتقدمين.