للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكذلك فإن أدلته تعتمد على قاعدة درء الحدود بالشبهات المستفادة من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، هذه الأحاديث وإن كان هناك مطعن في صحتها (١) ، إلا أن جماهير علماء الأمة تلقتها بالقبول، ولم يعترض على القاعدة المستفاد منها إلا ابن حزم الظاهري الذي يشكك في القول بدرء الحد بالشبهة، مستندا في ذلك إلى ضعف رواية الأحاديث من جهة، ومن جهة أخرى يقول أن درء الحدود بالشبهات معناه تعطيل الحدود وعدم إقامتها، ويرى أنه إذا ثبت الحد فلا يصح أن يدرأ بشبهة، والله تعالى يقول: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:٢٢٩] ثم أورد أمثلة كثيرة لاختلال هذه القاعدة عند فقهاء المالكية والحنفية (٢) .

والواقع أن قول الإمام ابن حزم حري بالتأمل، خاصة وأننا نرى أن فكرة الشبهة في الفقه الإسلامي – بالصورة التي هي عليها الآن- أدت إلى تمييع النصوص، حتى سرى الشك في قابلية الحدود للتطبيق في النظام الإسلامي، وذلك فإنه في اعتقادي – وقد سبقني إلى هذا القول بعض البحاثين المعاصرين (٣) –، أن موضوع الشبهة الدارئة للحد تحتاج إلى كثير من الضبط بحيث تؤدي دورها في درء الحد عمن سارت الشكوك حول اقترافه للجرم، لا لتعطيل الحدود، وإيقاف تنفيذها لمجرد إقحام نظرية لا يؤيد الواقع العملي منها الكثير من نتائجها مثال ذلك: ما يقال: إن السارق من بيت المال لا يقام عليه الحد لأن للسارق حقا في بيت المال، مع أن الحكمة من حد السرقة هو إضفاء الطابع العام على الملكية الخاصة، ومن هنا يقول الكثير من الفقهاء: إنه حق لله تعالى فيكون من المناقض لقصد الشارع أن نقول للسارق حق في المال العام وهذا يكفي لدرء الحد عنه فتسقط بذلك الحماية للمال العام وتقيمها على الأموال الخاصة. انظر (تبين الحقائق وشرح كنز الدقائق) :٣/٢٢١. ومثال ذلك أيضا شبهة الحرز فالرجل نائم في المسجد ويضع ثوبه تحت رأسه فإذا سرق الثوب من تحت رأسه قطع السارق لأنه سرق من حرز، وإذا تقلب الرجل وهو نائم وانفلت الثوب من تحت رأسه فسرقه السارق لا يقطع لأنه شيء غير محرز، المهذب:٢/٢٧٩.

ومن ذلك أيضا: شبهة العقد عند أبي حنيفة تدرأ عنه الحد إذا كان على علم بالتحريم أم لم يعلمه فهو لا شك تعطيل للحد في غير ما سبب واضح خاصة مع علمه بالتحريم، فالحق كما قال ابن قدامة الحنبلي: أن الإقدام على هذا الفعل من أعلم بمواطن التحريم يشكل في حد ذاته جريمة، فكيف يكون ارتكاب جريمة هو سبب لإباحة ارتكاب جريمة أخرى بدلا من أن يكون سببا لتشديد العقوبة.

المغني: ٨/١٨٢؛ وانظر كذلك فتح القدير: ٣/٤؛ وتبيين الحقائق: ٣/١٧٩. .


(١) راجع هامش الصفحة (٢٧) .
(٢) المحلى:١١/١٨٥ وما بعدها، حيث ذكر الإمام ابن حزم عدة مطاعن على هذه الأحاديث ومن المطاعن ما قدمت في الهامش ص٣٧٦.
(٣) الدكتور أبو المعطي حافظ أبو الفتوح في كتابه النظام العقابي الإسلامي، ص٢٥١ وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>