أسباب الاختلافات الفقهية:
الينبوع الصافي لهذه الشريعة هو كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وإن النصوص تتناهى، ولكن الحوادث لا تتناهى، فكان لابد من استنباط حكم شرعي لكل حادثة من الحوادث، والنصوص إن شملت الأحكام الكلية، لا تجيء فيها الأحكام الجزئية في النص، فكان لابد من التعرف بالنظر والفحص، وقد تشعبت بين أيدي الدارسين طرق تعرف الأحكام، وكل أخذ بما استقام في منطقه ونظره، وبما وصل إليه من حديث أو أثر لصحابي صح عنده (١) .
وهذا هو السبب الرئيسي للاختلاف بين الفقهاء، وقد أشار من كتبوا في أصول الفقه، أو تاريخ التشريع من قدامى ومعاصرين؛ إلى أسباب الاختلاف، ومن أقدمها كتاب ابن السيد البطليوسي الأندلسي، وقد لخص الشاطبي أسباب الاختلاف من كتاب ابن السيد وهي أوسع المراجع لها، وحصرها في ثمانية أسباب:
السبب الأول: الاشتراك الواقع في الألفاظ، واحتمالها للتأويلات، وهو ثلاثة أقسام:
القسم الأول: اشتراك في موضوع اللفظ المفرد؛ كالقرء للمحيض وللطهر.
القسم الثاني: اشتراك في أحواله العارضة في التصريف، نحو: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [البقرة: ٢٨٢] ، لاحتمال لفظ (يضار) وقوع الضرر منهما إذا اعتبر مبنيًا للمعلوم، أو عليهما إذا اعتبر مبنيًا للمجهول.
القسم الثالث: اشتراك من قبل التركيب نحو {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: ١٠] ، لما جاء فيه من الاختلاف في الفاعل: هل هو (الكلم) أم (العمل) ؟
السبب الثاني: دوران اللفظ بين الحقيقة والمجاز، وهو ثلاثة أقسام أيضًا:
القسم الأول: ما يرجع إلى اللفظ المفرد، نحو: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: ٣٥] .
القسم الثاني: ما يرجع إلى أحواله، نحو: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ: ٣٣] .
القسم الثالث: ما يرجع إلى جهة التركيب، كإيراد الممتنع بصورة الممكن، وأشباهه مما يورد من أنواع الكلام بصورة غيره، كالأمر بصورة الخبر.
السبب الثالث: دوران الدليل بين الاستقلال بالحكم وعدمه، كمسألة البيع بشرط، فكل قائل بشيء منها استند إلى دليل لم يلاحظ فيه دليل غيره، كما حصل لليث بن سعد مع أبي حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة.
السبب الرابع: دورانه بين العموم والخصوص، نحو: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: ٢٥٦] ، هل هو خبر بمعنى النهي، أو هو خبر حقيقي؟
السبب الخامس: اختلاف الرواية، وله علل ثمانية: فساد الإسناد، ونقل الحديث على المعنى، أو من الصحف، والجهل بالإعراب، والتصحيف، وإسقاط جزء الحديث، أو سببه، وسماع بعض الحديث وفوت بعضه.
السبب السادس: جهات الاجتهاد والقياس.
السبب السابع: دعوى النسخ وعدمه.
السبب الثامن: ورود الأدلة على وجوه تحتمل الإباحة وغيرها؛ كالاختلاف في الأذان والتكبير على الجنائز، ووجوه القراءات.
(١) المذاهب الإسلامية، الشيخ محمد أبو زهرة، ص١٢، ١٦.