للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال القرطبي: فإذا ترافع أهل الذمة إلى الإمام، فإن كان ما رفعوه ظلمًا كالقتل والعدوان والغصب حكم بينهم ومنعهم منه بلا خلاف، وأما إذا لم يكن كذلك فالإمام مخير في الحكم بينهم وتركه عند مالك والشافعي غير أن مالكًا رأى الإعراض عنهم أولى، فإن حكم حكم بينهم بحكم الإسلام (١) ، وقال الجصاص: وقال أصحابنا أهل الذمة محمولون في البيوع والمواريث وسائر العقود على أحكام الإسلام كالمسلمين إلا في بيع الخمر والخنزير فإن ذلك جائز فيما بينهم؛ لأنهم مقرون على أن تكون مالًا لهم ولو لم يجز مبايعتهم وتصرفهم فيها والانتفاع بها لخرجت من أن تكون مالًا لهم ولما وجب على مستهلكها عليهم ضمان ولا نعلم خلافًا بين الفقهاء فيمن استهلك لذمي خمرًا أن عليه قيمتها. وقد روى أنهم كانوا يأخذون الخمر من أهل الذمة في العشور فكتب إليهم عمر أن ولوهم بيعها، وخذوا العشر من أثمانها فهذان مال لهم يجوز تصرفهم فيها وما عدا ذلك فهو محمول على أحكامنا لقول الله تعالى {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: ٤٩] وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كتب إلى أهل نجران: ((إما إذا تذروا الربا وإما أن تأذنوا بحرب من الله ورسوله)) فجعلهم النبي صلى الله عليه وسلم في خطر الربا ومنعهم منه كالمسلمين إلى أن قال: فهذا الذي ذكرناه مذهب أصحابنا في عقود المعاملات والتجارات وحدود أهل الذمة والمسلمون فيها سواء (٢) .

احتكام المسلم إلى محاكم غير إسلامية في بلاد كافرة:

يجيز الإسلام للمسلم الانتقال إلى البلاد غير الإسلامية للتجارة والعمل وغيره (٣) ولا شك أن البيع والشراء والإجارة ونحوها مظنة لوقوع الخلاف بين المتعاملين ومظنة لوقوع التباعد والتناكر بينهما فلا بد من سبيل إلى دفع الظلم الحيف ورفع التجاحد والتناكر بين الناس والسبيل إلى ذلك إما أن يعمد كل إنسان إلى تخليص حقه بيده فيكون الأقوى بدنًا أو عشيرة هو المستفيد وإما أن يلجأ إلى هيئة تضعها الجماعة أو السلطة المتواضع عليها تنظر في مظالم الناس وتعطي كل ذي حق حقه، والعدل والظلم لا يخضعان دائمًا لقوة الدين وسلطانه فكم من دولة كافرة تنشر العدل بين رعاياها وتنصف المظلوم من الظالم فينفعها ذلك في استتاب الأمن فيها وبقائها، يقول ابن تيمية: وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة إن كانت مسلمة. ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام (٤) .


(١) الجامع لأحكام القرآن جـ ٦ / ١٧٩
(٢) أحكام القرآن لجصاص جـ ٢ / ٨٩.
(٣) المدونة الكبرى من رواية الإمام سحنون عن عبد الرحمن بن القاسم جـ ٤ / ٢٧٠؛ حاشية رد المحتارجـ ٤ / ١٦٦ وما بعدها.
(٤) الحسبة في الإسلام لابن تيمية تحقيق عبد العزيز رباح ص ٩٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>