للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(ب) حكمها:

١٧ – اختلف الفقهاء في حم توثيق الدين بالشهادة علن قولين:

(أحدهما) للظاهرية وبعض السلف، وهو أن الإشهاد على الدين واجب لقوله تعالى في آية الدين: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} الآية (١) .

(والثاني) لجمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة، وهو أن الإشهاد على الدين ليس بواجب إذا الأمر به إرشاد إلى الأوثق والأحوط، لقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} .

قال العلامة ابن العربي: معناه أنه أسقط الكتاب والإشهاد والرهن، وعوَّل على أمانة المعامل.. ولو كان الإشهاد واجبًا لما جاز إسقاطه.. وجملة الأمر أن الإشهاد حزم والائتمان وثيقة بالله من المدين ومروءة من المداين (٢) .

وقال أبو بكر الرازي الجصاص: " ولا خلاف بين فقهاء الأمصار أن الأمر بالكتابة والإشهاد والرهن المذكور جمعيه في هذه الآية ندب وإرشاد إلى ما لنا فيه الحظ والصلاح والاحتياط للدين والدنيا، وأن شيئًا من غير واجب. وقد نقلت الأمة خلفًا عن سلف عقود المدينات والأشرية والبياعات في أمصارهم من غير إشهاد، مع علم فقهائهم بذلك من غير نكير منهم عليهم، ولو كان الإشهاد واجبًا لما تركوا النكير على تاركه مع علمهم به. وفي ذلك دليل على أنهم رأوه ندبًا، وذلك منقول من عصر النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا " (٣) .

وقال إلكيا الهراسي في " أحكام القرآن ": " إن الأمر بالإشهاد ندب لا واجب، والذي يزيده وضوحًا أنه قال: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} . ومعلوم أن الأمن لا يقع إلا بحسب الظن والتوهم لا على وجه الحقيقة وذلك يدل على أن الشهادة إنما أمر بها لطمأنينة قلبه لا لحق الشرع فإنها لو كانت لحق الشرع لما قال: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا} . فلا ثقة بأمن العباد، إنما الاعتماد على ما يراه الشرع مصلحة، فالشهادة متى شرعت في النكاح لم تسقط بتراضيهما وأمن بعضهم بعضًا، فدل ذلك أن الشهادة شرعت للطمأنينة. ولأن الله تعالى جعل لتوثيق الديون طرقًا؛ منها الكتابة ومنها الرهن ومنها الإشهاد، ولا خلاف بين علماء الأمصار أن الرهن مشروع بطريق الندب لا بطريق الوجوب فيعلم من ذلك مثله في الإشهاد " (٤) .

وقال القاضي ابن العربي: " والظاهر الصحيح أن الإشهاد ليس واجبًا، وإنما الأمر به أمر إرشاد للتوثُّق والمصلحة، وهو في النسيئة محتاج إليه لكون العلاقة بين المتعاقدين باقية، توثقًا لما عسى أن يطرأ من اختلاف الأحوال وتغير القلوب " (٥) .


(١) المحلى: ٨/٨٠، وقد روي عن أبي موسى الأشعري، أنه قال: " ثلاثة يدعون فلا يستجيب لهم: رجل كانت لهم امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل أعطى ماله سفيهًا وقد قال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} ورجل له على رجل دين ولم يُشهد عليه "، وقد روي هذا الحديث مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وروي عن الضحاك أنه قال: إن ذهب حقه لم يُؤْجَرْ وإن دعا عليه لم يجب، لأنه ترك حق الله وأمره. وقد أجاب الجصاص عما روي عن أبي موسى بأنه لا دلالة فيه على أنه رآه واجبًا، ألا ترى أنه ذكر معه من له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ولا خلاف أنه ليس بواجب على من له امرأة سيئة الخلق أن يطلقها وإنما دل هذا القول منه على أن فاعل ذلك تارك للاحتياط والتوصل إلى ما جعل الله تعالى له فيه المخرج والخلاص. (انظر أحكام القرآن، للجصاص: ١/٤٨١، ٤٨٢) .
(٢) أحكام القرآن، لابن العربي: ١/٢٦٢.
(٣) أحكام القرآن، للجصاص: ١/٤٨٢.
(٤) أحكام القرآن، لإلكيا الهراسي:١/٣٦٥؛ وانظر: الأم، للشافعي: ٣/٨٩ وما بعدها.
(٥) أحكام القرآن، لابن العربي: ١/٢٥٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>