اقتصر في عطاء هذا السائل -فيما نراه والله أعلم- لما رأى منه من المعلّم وليس هو هناك، ولعلّه فهم عنه التعاظم عليه بالعلم، كما هو شأن كثير ممن يدخل إلى الأمراء، ويظنّهم جهلة، على العادة الغالبة.
وكان المأمون كثير العفو والصفح، ومن كلامه: لو علم الناس حبي للعفو لتقرّبوا إليّ بالجرائم، وأخاف أن لا أؤجر فيه. يعني لكونه طبعًا له.
قال يحيى بن أكثم: كان المأمون يحلم حتى يغيظنا.
وقيل: إن ملاحًا مرّ والمأمون جالس، فقال: أتظنّون أن هذا ينبل في عيني، وقد قتل أخاه الأمين؟ فسمعه المأمون، وظنّ الحاضرون أنه سيقضي عليه، فلم يزدْ على أن تبسم، وقال: ما الحيلة، حتى أنبل في عين هذا السيّد الجليل.
قال -أعني ابن السبكي-: ولسنا نستوعب ترجمة المأمون، فإن الأوراق تضيق بها، وكتابنا غير موضوع لها، وإنما غرضنا أنه كان من أهل العلم والخير، وجرّه القليل الذي كان يدريه من علوم الأوائل، إلى القول بخلق القرآن، كما جرّه اليسير الذي كان يدريه في الفقه، إلى القول بإباحة متعة النساء، ثم لم يزلْ به يحيى بن أكثم، رحمه الله تعالى، حتى أبطلها، وروى له حديث الزهري، عن ابني الحنفية، عن أبيها محمد بن علي، رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم "خيبر". فلمّا صحّ له الحديث، رجع إلى الحق.
وأما مسألة خلق القرآن فلم يرجعْ عنها، وكان قد ابتدأ بالكلام فيها، في سنة اثنتي عشرة، ولكن لم يصمم ويحمل الناس، إلا في سنة ثمان عشرة، ثم عوجل، ولم يمهل، بل توجّه غازيًا إلى أرض "الروم"، فمرض، ومات، في سنة ثمان عشرة ومائتين.