للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

السوق، فما يقال فيها ويصرخ على رءوس الأشهاد ينتشر في كل مكان، ويأخذ صداه بين الحاضرين، ثم يذهب إلى الغائبين، ولهذا كانت أيضًا الموضع الذي يعلن فيه الناس خلع من يريدون خلعه للتبرؤ من جرائره، شأنها في ذلك شأن "سوق مجنة"، وهي أيضًا من أسواق الجاهلية وكانت على أميال من مكة١، وأنت ترى أن "حسان" قد ذكر أنه سينشر شعره فيها وفي عكاظ. مما يدل على أنها كانت ذات أهمية أيضًا من حيث النشر والإعلان، وأنها مثل عكاظ، ومثل أي سوق أخرى كبير من حيث تجمع الناس فيها والإعلان عما يقع لهم من أحداث.

وأما ما ذكروه من إنشاد حسان للنابغة شعره:

لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

ومن رد النابغة عليه بقوله: أنت شاعر، ولكنك أقللت جفناتك وأسيافك، وفخرت بمن ولدت، ولم تفخر بمن ولدك. فحكاية شك فيها العلماء، وإن كان هذا الشاهد من شواهد سيبويه. لأن الاعتراض لا يدور على الشاهد، وإنما على القصة. وقد ذهب بعض العلماء إلى أنها خبر مجهول لا أصل له. وهناك قوم أنكروا هذا البيت أصلًا، ومنهم من روى ملاحظة النابغة المزعومة بشكل آخر٢" وفي الشكلين ما يوحي إلى أن القصة مفتعلة، وضعها الرواة لإيجاد مخرج للبيت.

ولم أجد في المراجع المعتبرة القديمة نصًّا، يفيد أن الأمر كان لقريش في الحكم بين الشعراء أو الخطباء في سوق عكاظ. والنابغة الذي جعلوه حكمًا يحكم في أمر الشعر لم يكن من قريش، بل هو من "بني ذبيان"، وهو الحكم الوحيد الذي نص أهل الأخبار على اسمه، وزعموا أنه كانت له قبة حمراء من أدم، وكان ينشد شعره، وإليه تتحاكم الشعراء في أيهم أشعر، وكل الشعراء الذين ذكروهم هم: الأعشى، والخنساء، وحسان في قصة منمقة طريفة٣. ولم أعثر حتى الآن على اسم حاكم آخر، آلت إليه حكومة الشعر في عكاظ، لا من قريش ولا من غير قريش. فأين إذن موقع قريش في هذه السوق من الإعراب.


١ تاج العروس "٩/ ١٦٤"، "جنن".
٢ خزانة "٣/ ٤٣٠ وما بعدها".
٣ المزهر "١/ ٨٩".

<<  <  ج: ص:  >  >>