للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما ما زعمه بعض أهل الأخبار من أن العرب في الجاهلية كان يقول الرجل منهم الشعر في أقصى الأرض، فلا يُعْبأ به حتى يأتي مكة فيعرضه على قريش، فإن استحسنوه روي وكان فخرًا لقائله، وإن لم يستحسنوه طُرح وذهب فيما ذهب؛ وما روي عن "أبي عمرو بن العلاء" من قوله: كانت العرب تجتمع في كل عام بمكة، وكانت تعرض أشعارها على هذا الحي من قريش"١.

فروايات من نوع الروايات التي لا تتمكن من الوقوف على أرجلها، ولم نجد في كتب التأريخ والأخبار ما يؤيدها، وضعت لتبرير القصص الذي نسجوه عن أسطورة تعليق المعلّقات. ثم إننا لم نسمع بحبر الشعر الذي استحسنوه وأجازوه، غير شعر المعلقات، ولو كان ما نسب إلى "أبي عمرو بن العلاء" أو غيره حقًّا، من استحسان شعر وطرح شعر، لما سكت رواة الشعر من الإشارة إلى الشعر الذي استحسنه أهل مكة فنال بذلك شرف الاختيار والسيادة والرفعة، ولما غضوا النظر غضًّا تامًّا عن الإشارة إلى الشعر الذي لم يستحسنوه فسقط وذل، وفي ذكر الشعر الفاشل أهمية كبيرة في نظر الشعراء الخصوم، وفي نظر القبائل التي كانت تبحث وتتجسس على الهفوات والسقطات لاتخاذها مغمزًا تنال بها القبائل بعضها بعضًا! ثم كيف سكتت قريش عن هذا الشرف الذي كان لها قبل الإسلام، وقد رووا أنها نظرت فإذا حظها في الشعر أيام الجاهلية قليل، فاستكثرت منه في الإسلام، وأنها أضافت كثيرًا إلى شعر "حسان" للإساءة إليه، ولو كان هذا الشرف المزعوم، لما سكتوا عنه، ولما سكت من تبسط في تأريخ مكة، أو كتب في السيرة عن الإشارة إليه، لما فيه من أهمية كبيرة بالنسبة للتأريخ، ثم إننا لا نجد في القرآن الكريم شيئًا يشير إلى ذلك، مع تعرضه للشعراء، كما لا نجد في كتب الحديث أي شيء يدل على وجوده، مع أنها تعرضت للشعر، ولسماع الرسول له، وقد ذكرت أنه كان يسأل الصحابة أن ينشدوا شعر الشعراء له، إلى غير ذلك مما هو مدوّن في بطون هذه الكتب.

وأما ما زعموه من أن العرب كانت تعرض أشعارها على قريش، فما قبلوه منها كان مقبولًا، وما ردوه منها كان مردودًا، فقدم عليهم علقمة بن عبدة التميمي، فأنشدهم قصيدته: هل ما علمت وما استودعت مكتوم، فقالوا:


١ الرافعي، تأريخ آداب اللغة "١/ ١٨٦".

<<  <  ج: ص:  >  >>