للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفود العرب الذين لا يوجه الخطاب، كانوا يجهلون من ذلك أشياء كثيرة، حتى قال له علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، وسمعه يخاطب وفد بني نهد: يا رسول الله، نحن بنو أب واحد، ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره! فكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوضح لهم ما يسألونه عنه عما يجهلون معناه من تلك الكلمات، ولكنهم كانوا يرون هذا الاختلاف فطريًّا في العرب فلم يلتفتوا إليه"١. وفي هذا الخبر -إن صح- دلالة على الضد، دلالة على أن العرب كانت على سجيتها ولسانها في كلامها، وأنها لم تكن تنطق بلسان قريش بل بألسنتها، وإلا لما تعجب علي وغيره من كيفية تفاهم الرسول مع القبائل وعدم تمكنهم هم من فهم كلامهم، مع أنه وإياهم من أب واحد، أي من قريش. ثم من أكد لنا أن معاذ بن جبل، وهو من الأنصار لم يجد صعوبة في تفاهمه مع أهل اليمن، وأن وفود اليمن لم تجد صعوبة في تفاهمنا مع الرسول، ومن أين جاء هذا التأكيد؟ والذي نعلمه أن الموارد لم تتحدث عن ذلك، بل الذي رأيناه هو العكس، وهو ما ذكرته في خبر علي مع النبي.

أما لو أخذنا بما نجده في الموارد من كلام الوفود مع الرسول وجواب الرسول على كلامهم، وكله بهذه العربية المبينة، فقد قلت مرارًا: إن الصحابة في ذلك الوقت لم يكونوا يدونون محاضر جلسات الرسول مع الوفود، ولا كلام الوفود مع الرسول بل ولا كلام الرسول وحده، أي: حديثه، وإن ما نقرأه من نصوص لا يمثل الأصل، وربما مثل المعنى، وقد يكون لا هذا ولا ذاك، وإنما روايات موضوعة، قد يحتمل أن يكون مع الوفود أناس يحسنون التكلم بالعربية المبينة، وأن بين أصحاب النبي من كان من العربية الجنوبية ومن القبائل التي كانت تتكلم بلهجات متباينة، فكانوا يقومون له بدور التفاهم والتقريب بين كلام الرسول وكلام الوفود.

وأما ما زعموه من دور "عكاظ" في تهذيب اللغة، وأثر قريش فيه، فلئن كان لعكاظ أثر في تباري العرب في النثر وفي الشعر، فإنك لا تستطيع إرجاع هذا الأثر إلى عمل وفعل جماعة معينة، وليس في الذي تحدث به الرواة من أخبار عن "عكاظ" ما يحصر فعل هذا التهذيب بقريش، وما قريش إلا كغيرهم من


١ الرافعي، تأريخ آداب العرب "١/ ٣٣٥"، "رواية اللغة".

<<  <  ج: ص:  >  >>