للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الإسلام إلى بلاد غير المسلمين، ولم يَقُلْ أحدٌ منهم أن هذه الأخلاقيَّات مصلحيَّة نفعيَّة، يجوز للمسلم أن يتخلَّى عنها، وينسلخ منها، إن كان في مجتمع غير مسلمٍ، أو كان تعاملُه مع غير المسلمين!

وهذه نماذج من كلام العلماء الأعلام، تُظهر عظمة دين الإسلام، وكمال شريعته، وسمو أخلاق أهله الملتزمين به كما يحبُّه الله تعالى ويرضاه:

قال الإمام الشافعيُّ رحمه الله (١): «إذا دخلَ قومٌ من المسلمين بلادَ الحرب بأمانٍ؛ فالعدوُّ منهم آمنون إلى أن يفارقوهم، أو يبلغوا مدَّة أمانهم، وليس لهم ظلمهم، ولا خيانتهم». (٢)

وقال الشَّافعيُّ ـ أيضًا ـ: «وإذا دخل رجلٌ مسلمٌ دار الحربِ بأمانٍ فوجد امرأتَه، أو امرأةَ غيره، أو مالَه، أو مالَ غيره من المسلمين أو أهل الذِّمَّة، مِمَّا غصَبَه المشركون؛ كان له أن يخرج به، من قِبَلِ أنَّه ليس بمِلْكٍ للعدو، ولو أسلموا عليه لم يكن لهم، فليسَ بخيانةٍ، كما لو قدر على مسلمٍ غصب شيئًا فأخذه بلا علمِ المسلم فأدَّاه إلى صاحبه؛ لم يكن خائنًا (٣). إنَّما الخيانةُ: أخذُ


(١) أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعيُّ (٢٠٤/ ٨٢٠): إمام مجتهد، عالم باللغة والأصول والحديث والفقه، نشأ بمكَّة، وتفقَّه بها، ورحل إلى اليمن، والعراق، واستقرَّ بمصر وتوفي بها. من مؤلفاته كتاب «الرِّسالة» وهو أول مؤلَّف في أصول الفقه، وكتاب «الأُم» وفيه كثيرٌ من حديثه وفقهه وآرائه التي أملاها على تلاميذه. ومذهبه في الفقه هو أحد المذاهب الفقهية الأربعة. مترجم في «سير أعلام النبلاء» (١٠/ ٥:١).
(٢) كتاب «الأُم» ٤/ ٢٤٨، وط: دار الوفاء ٥/ ٦٠٦.
(٣) هنا يجري الإمام الشافعي رحمه الله على قاعدة واحدة مطَّردة، فيجعل لمن اغتصُب منه ماله حقَّ استرجاع العين المغصوبة، ولا فرق في ذلك أن يكون المغتصَبُ منه مسلمًا أو كافرًا، ولا في أن يكون المغتصِبُ مسلمًا أو كافرًا. ولا شكَّ أن هذا مقيَّد بشرط القدرة على تحقيق مصلحة استرجاع الحقِّ من غير ترتُّب مفاسد راجحة عليها.
وهذا الحكم متعلِّق بالأفراد وما تتعلق به مِلكيَّتُهم، أما ما يتعلَّق بالدول فالأمر راجع فيها إلى ولاة الأمر فيها، فليس للمسلم العاقل أن يظنَّ بأنَّ له حقَّ الاستيلاء على أموال الكفار بدعوى أنَّهم اغتصبوا بعضها من بلاد المسلمين، لأنَّ استرداد تلك الأموال ـ إن صحَّت هذه الدعوى ـ من واجبات الدولة، ولو قدِّر للفرد المسلم التمكُّن من استرجاعها؛ فليس له الانتفاع بها، بل يجب عليه ردُّها إلى دولة المسلمين لأنها مِلكٌ لمجموع الأمة لا لأفرادها.
وقول الشافعيُّ هنا مبنيٌّ على أنَّ ما حازه أهل الحرب من أموال المسلمين ظلمًا وعدوانًا يبقى على ملك المسلم، وله أخذه منهم بغير عوضٍ. هذا مذهبه ومذهب أصحابه ومذهب الحنابلة والظاهريَّة، وقال الحسن البصري والزهري وعمرو بن عطاء: أنَّها تصير بحيازتهم لها في ملكهم، فإذا استردَّها المسلمون من أيديهم فهي غنيمة الجيش ليس لصاحبها منها شيء. ووافقهم المالكية والحنفية في أصل المسألة لكن أثبتوا لصاحبها حقَّ ردِّها من الغنيمة في تفصيلٍ ليس هذا موضعه، وبنوا عليه قولهم في الكافر يُسلم وبيده مالُ مسلمٍ هل يصحُّ له ويقرُّ عليه أم لا؟ فقال مالك وأبو حنيفة: يصحُّ له. وقال الشافعيُّ وأحمد: لا يصحُّ له.
انظر في المسألة وأدلتها: «الأم» (من أسلم على شيء غصبه أم لم يغصبه) (٤/ ٢٨٢)، و «شرح معاني الآثار» لأبي جعفر الطحاوي (٣/ ٢٦٢)، و «المحلى بالآثار» لابن حزم (٧/ ٣٠٠) (المسألة: ٩٣١)، و «المبسوط» للسرخسي (١٠/ ٦١)، و «بداية المجتهد» لابن رشد (٢/ ٧٧٢)، و «المغني» لابن قدامة (١٣/ ١١٧ و ١٢١).

<<  <   >  >>