وَالْإِبَاحَةِ يَقْتَضِي تَخْيِيرًا لِمَنْ وَقَعَ ذَلِكَ لَهُ، فِي أَنْ يُمْضِيَ أَيَّ الِاجْتِهَادَيْنِ شَاءَ، فَيَحْكُمُ بِهِ دُونَ الْآخَرِ، لِاسْتِحَالَةِ جَمْعِهِمَا (جَمِيعًا) فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُسْقِطُ هَذَا السُّؤَالَ، وَيُحِيلُ تُسَاوِي جِهَتَيْ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدَيْنِ. وَمَنْ قَبْلَهُ أَجَازَ ذَلِكَ (وَيَقُولُ: لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ) فِي الْعَادَةِ أَنْ يَسْتَوِيَ فِي تَدْبِيرِ الْحُرُوبِ، وَمَكَائِدِ الْعَدُوِّ جِهَتَا الْإِقْدَامِ وَالْإِحْجَامِ. وَقَدْ يَتَسَاوَى عِنْدَ الْمُتَحَرِّي لِلْكَعْبَةِ الْجِهَاتُ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ، أَوْ فِي فَلَاةٍ فِي غَيْمٍ وَظُلْمَةٍ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ فِيمَا وَصَفْنَاهُ، وَقَدْ يَعْرِفُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ، لَمْ يَكُنْ لِإِنْكَارِهِ وَإِحَالَتِهِ فِي مَسَائِلِ الْفُتْيَا وَتَسَاوِي جِهَاتِ الْإِحْكَامِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ وَجْهٌ. فَإِنْ قَالَ: فَإِذَا جَوَّزْتُمْ لِلْمُجْتَهِدِ تَسَاوِي الْحُكْمَيْنِ عِنْدَهُ، وَاعْتِدَالَهُمَا فِي نَفْسِهِ، وَأَوْجَبْتُمْ بِهِ التَّخْيِيرَ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَجَوِّزُوا لَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ فِي حَالٍ، ثُمَّ يُعْقِبَهُ بِاخْتِيَارِ الْقَوْلِ الْآخَرِ، وَالْعُدُولِ عَنْ الْأَوَّلِ إلَيْهِ، حَتَّى يَخْتَارَ فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ حَرَامٌ، طَلَاقَ امْرَأَتِهِ، وَيَخْتَارَ عِتْقَ عَبْدِهِ فِي لَفْظٍ قَدْ اعْتَدَلَ فِيهِ الرِّقُّ وَالْحُرِّيَّةُ، ثُمَّ يَخْتَارَ بَعْدَ ذَلِكَ إمْسَاكَهَا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ، وَيَخْتَارَ رَدَّ الْعَبْدِ إلَى الرِّقِّ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ، مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ، وَلَا فِكْرٍ، وَلَا اجْتِهَادٍ، كَمَا كَانَ لَهُ بَدْءًا أَنْ يَخْتَارَ أَيَّهُمَا شَاءَ، إذَا كَانَا عِنْدَهُ مُتَسَاوِيَيْنِ. فَكَذَلِكَ يَخْتَارُ الثَّانِيَ عَقِيبَ الْأَوَّلِ، ثُمَّ يَعُودُ بَعْدَهُ فَيَخْتَارَ الْأَوَّلَ، لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِاعْتِدَالِ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَهُ. وَيَلْزَمُ أَيْضًا عَلَى هَذَا: أَنَّهُ إذَا آلَى مِنْ امْرَأَتَيْنِ، فَمَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أَنَّ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ فِي أَحَدِهِمَا وُقُوعَ الْبَيْنُونَةِ، بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَلَا يَخْتَارَ فِي الْأُخْرَى وَنَوْعِهَا بِمَعْنَى الْمُدَّةِ، وَأَنْ يُقِيمَ عَلَى نِكَاحِهَا إلَى أَنْ يُوقِفَ، وَيُحَرِّمَ إحْدَى امْرَأَتَيْهِ بِالرَّضْعَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَا يُحَرِّمَ الْأُخْرَى إلَّا بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://www.shamela.app/page/contribute