وفي هذا الحديثِ أيضًا: عيادةُ العالم والخليفةِ وسائرِ الجِلَّةِ للمريضِ.
وفيه: الدليلُ على أنَّ الأعمالَ لا تَزْكُو عندَ الله إلَّا بالنِّياتِ، لقولِه:"وإنَّك لن تُنْفِقَ نفقةً تَبْتَغي بها وجهَ الله إلَّا أُجِرْتَ فيها" فدَلَّ على أنَّه لا يأْجُرُ اللهُ على شيءٍ مِن الأعمالِ إلَّا ما ابْتُغيَ به وجْهُه تبارك وتعالى.
وفيه: دليلٌ على أنَّ الإنفاقَ على البَنِينَ والزوجاتِ مِن الأعمالِ الصالحاتِ، وإنَّ تَرْكَ المالِ للورثةِ أفْضَلُ مِن الصدقةِ به، إلَّا لِمَن كان واسِعَ المالِ. والأُصُولُ تَعْضُدُ هذا التأويلَ؛ لأنَّ الإنفاقَ على مَن تَلْزَمُه نفَقَتُه فَرْضٌ، وأداءُ الفرائضِ أفْضَلُ مِن التَّطَوُّع. ولو اسْتَدَلَّ مُسْتَدِلٌّ على أنّ وُجوبَ نَفَقاتِ الزوجاتِ بهذا الحديثِ لكان مَذْهَبًا، لقولِه:"حتى ما تَجعَلُ في فيّ امرأتِك".
وأمَّا قولُ سَعْدٍ:"أُخَلَّفُ بعدَ أصحابي؟ " فمَعْناه عندي - واللهُ أعلمُ -: أُخَلَّفُ بمكةَ بعدَ أصحابي المهاجِرِينَ المُنْصَرِفِين معك إلى المدينةِ. ويَحتَمِلُ أن يكونَ لمّا سَمِع رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:"إنَّك لن تُنْفِقَ نفقةً تَبْتَغي بها وجهَ الله" - و"تُنْفِقُ" فعْلٌ مُسْتَقْبَلٌ - أيْقَن أنَّه لا يموتُ مِن مَرَضِه ذلك، أو ظَنَّ ذلك، فاسْتَفْهَمَه: هل يَبْقَى بعدَ أصْحابِه؟ فأجابه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بضرْبٍ مِن قولِه:"لن تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغي بها وجهَ الله". وهو قولُه:"لن تُخلَّفَ فتَعْمَلَ عَمَلًا صالحًا إلَّا ازْدَدْتَ به رفْعَةً ودَرَجَةً، ولعلَّكَ أن تُخلَّفَ حتى يَنْتفِعَ بك أقْوَامٌ ويُضَرَّ بك آخَرُون". وهذا كلُّه ليس بتَصْرِيح، ولكنَّه قد كان كلُّ ما قاله - صلى الله عليه وسلم -، وصدَقَ في ذلك ظَنُّه، وعاش سَعْدٌ حتى انْتَفَع به قومٌ واستَضَرَّ به آخرون.
وروَى ابنُ وَهْبٍ، قال: أخبرني عمرُو بنُ الحارثِ، عن بُكَيْر بنِ الأشَجِّ، قال: سألتُ عامرَ بنَ سَعْدِ بنِ أبي وقَّاصٍ عن قولِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لأبيه عامَ حَجَّةِ الوَدَاع:"ولعَلَّكَ أن تُخلَّفَ حتى يَنْتفِعَ بك قومٌ ويُضَرَّ بك آخَرُونَ". فقال: أُمِّر