وإذا كان عداء الفلسفات المعادية للهيجلية للتاريخ أمراً واضحاً، فالأمر مختلف بعض الشيء بالنسبة للهيجلية التي تتحدث كثيراً عن التاريخ وحتمياته وقوانينه ومراحله وأنماطه. ولكنها مع هذا، في تصوُّرنا، لا تقل في عدائها للتاريخ عن المدارس المعادية للهيجلية. فالفلسفة الهيجلية تفترض أن ثمة فكرة ليس لها وجود مادي أو نسبي، هي التي تحرك التاريخ والمجتمع والإنسان والطبيعة. ويُطلَق على هذه الفكرة عدة أسماء: الفكرة المطلقة ـ العقل المطلق ـ الروح بشكل عام (جايست) ـ الروح اللامتناهي. ولكن المطلق ليس سكونياً، فهو لن يُدرك نفسه إدراكاً كاملاً ولن يتحقق تحققاً كاملاً إلا في الطبيعة والزمان والتاريخ، وذلك عبر عملية جدلية تتداخل فيها المتناقضات وتتحدد من خلالها الأضداد، إلى أن يصبح الفكر طبيعة، وتصبح الطبيعة فكراً. وهذه الوحدة الكونية النهائية ممكنة لأن قوانين الفكر هي في واقع الأمر قوانين المادة، وقوانين المنطق (العقل) هي في واقع الأمر قوانين الطبيعة. كل هذا يعني أن الفلسفة الهيجلية، رغم كل حديثها عن التاريخ والجدل والتناقض، فلسفة واحدية تسد الثغرة التي تفصل بين الإنساني والطبيعي وتلغى ثنائية الفكر والمادة والحضارة والطبيعة، ومن ثم تمحو الإنسان كظاهرة متفردة مستقلة عن الطبيعة. ولهذا قيل عن حق إن الهيجلية فلسفة لا تعرف الثنائيات ولا تفصل بين المادي والمثالي، أو بين الطبيعي والإنساني، أو بين المقدَّس والزمني، إذ سيُردُّ كل شيء إلى عنصر واحد، مادي فعلاً روحي اسماً. والفكر الهيجلي لا ينظر إلى الواقع إلا من منظور نهاية التاريخ حين يتجسد العقل الكلي ويتحقق القانون العام في التاريخ، في لحظة ينتهي فيها الجدل والمعاناة الإنسانية، إذ يصل الإنسان إلى الحل النهائي لكل مشاكله، ويُحكم السيطرة على كل شيء. ولكن من المفارقات أن لحظة السيطرة الكاملة هذه هي أيضاً لحظة انتصار البسيط على المركب والطبيعي على