للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويظهر رفض التاريخ الإنساني بطريقة أكثر صقلاً في فكر حركة الاستنارة الذي ينطلق من تأكيد أن التاريخ نشاط إنساني، فهو ثمرة جهد عقل الإنسان ومستودع حكمته. ولذا فهناك نزعة في فكر الاستنارة لتمجيد التاريخ وتقديسه. ولكن العكس صحيح أيضاً فقوانين العقل هي نفسها قوانين الطبيعة والمادة والحركة، والعقل المستنير لا يستمد معياريته من التاريخ أو الحضارة أو المجتمع وإنما من خلال الدراسة العلمية الصارمة لقوانين الطبيعة والمادة والحركة. ولذا بدلاً من الغائية التقليدية التي ترى أن التاريخ يسير بتوجيه إلهي، طُرحت فكرة جديدة تماماً على الفكر البشري وهي أن التاريخ يتحرك إما دون غائية، فهو حركة دون هدف (تماماً مثل الطبيعة/المادة) ، أو أن غائيته مثل معياريته مستمدة من الطبيعة/المادة. وغني عن القول أن الرؤية الأولى تنسف فكرة التاريخ تماماً. أما الرؤية الثانية فقد ترجمت نفسها إلى رؤية للتاريخ باعتباره عملية تَقدُّم دائمة، ولكنه تَقدُّم مرجعيته النهائية الطبيعة/المادة، وهدفه النهائي تَحقُّق قوانينها في التاريخ، ومن ثم يصبح التقدم تزايد تطبيق القوانين الطبيعية إلى أن تسود هذه القوانين تماماً (ويصبح المجتمع الإنساني في بساطة عالم الطبيعة ويحل التاريخ الطبيعي محل التاريخ الإنساني) .

وقد عبَّرت هذه الرؤية الاستنارية عن نفسها في كل من الهيجلية والفلسفات التي ثارت على الهيجلية. ولنبدأ بالفلسفات المعادية للهيجلية فرفضها للتاريخ أمر واضح، فهي فلسفات تنكر فكرة الجوهر والكل والمركز والسببية وأي شكل من أشكال اليقينية أو الثبات، بل تنكر الغائية نفسها، فيصبح العالم في حالة حركة دائمة خالية من المعنى والهدف والغاية، ومن ثم لا يمكن أن تقوم للتاريخ قائمة.

<<  <  ج: ص:  >  >>