للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

الطرطوشي (ت ٥٢٠ هـ) -، وكان ملتزمًا من المسجد الأقصى-طهره الله-بموضع يقال له (الغوير) بين باب الأسباط ومحراب زكريا عليه السلام فلم نلقه به، واقتفينا أثره إلى موضع منه يقال له (السكينة) فألفيناه بها، فشاهدت هديه وسمعت كلامه، فامتلأت عيني وأذني منه، وأعلمه أبي بنيتي فأناب، وطالعه بعزيمتي فأجاب، وانفتح لي به إلى العلم كل باب، ونفعني الله به في العلم والعمل، ويسر لي على يديه أعظم أمل، فاتخذت بيت المقدس مباءة، والتزمت فيه القراءة، لا أقبل على دنيا، ولا أكلم إنسيًّا، نواصل الليل بالنهار فيه، وخصوصا بقبة السلسلة، منه تطلع الشمس على الطور وتغرب على محراب داود، فيخلفها البدر طالعًا وغاربًا على الموضعين المكرمين، وأدخل إلى مدارس الحنفية والشافعية في كل يوم لحضور التناظر بين الطوائف، لا تلهينا تجارة، ولا تشغلنا صلة رحم، ولا تقطعنا مواصلة ولي، وتقاة عدو.

فلم تمر بنا إلا مدة يسيرة حتى حضر عندنا بالغوير ونحن نتناظر فقيه الشافعية عطاء المقدسي، فسمعني وأنا أستدل على أن مُدَّ عجوة ودرهمًا بمُدَّي عجوة لا يجوز، وقلت: الصفقة إذا جمعت مالَي ربًا ومعهما أو مع أحدهما ما يخالفه في القيمة سواء كان من جنسه أو من غير جنسه، فإن ذلك لا يجوز؛ لما فيه من التفاضل عند تقدير التقسيط والنظر والتقويم في المقابلة بين الأعواض، وهذا أصل عظيم في تحصيل مسائل الربا. فأعجب الفهري ذلك، والتفت إلى عطاء وقال له: قبضت فراخُنا! فقال له عطاء: بل طارت!. وذلك في الشهر الخامس أو السادس من ابتداء قراءتي) (١). فانظر كيف كان مجلس المناظرة الذي شهده القاضي سببًا لقطعه الرحلة إلى الحجاز وبقائه لتحصيل ما لدى أولئك الشيوخ في بيت المقدس، حتى أتقن ذلك في بضعة أشهر وأعجب به شيوخه.

كما قد تجري المناظرة أيضًا في بيوت الفقهاء أنفسهم (٢)، وفي الأربطة


(١) قانون التأويل (٩١ - ٩٥).
(٢) انظر: الحياة العلمية في العراق خلال عصر نفوذ الأتراك، زيني الحازمي (١/ ١٥٢)، الحياة العلمية في نيسابور، محمد الفاجالو (٢٩٧)، الحياة الفكرية والعلمية في أقاليم الخلافة الشرقية، د. علي مفتاح (١٦٥)، علماء خراسان في بغداد وأثرهم في الحركة الفكرية، د. رفاه تقي الدين (١١٩)، المؤسسات التعليمية في العصر العباسي الأول، د. مفتاح الرباصي (٨٥).

<<  <   >  >>