للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وغاية ما يستندون إليه عمومات (١)، وعقليات (٢)؛ لا تصمد أمام ما اتُّفق على صحته من السنة المبينة المصرحة، ولذلك قال أبو محمد ابن قدامة بعدما ساق حديث عائشة مع أفلح أخي أبي القعيس - عمها من الرضاعة الذي أمرت بالإذن له في الدخول عليها -: وهذا نص قاطع في محل النزاع، فلا يعول على ما خالفه ا. هـ (٣)، وهذه العبارة الصريحة لم يجر بها قلم ابن قدامة بتمامها في أي مسألة أخرى من كتابه المغني.

وما تقدم في عدم الاعتداد بلبن الفحل لو صح عن عائشة (٤) - رضي الله عنها - فهو ظاهر في كونه قبل علمها بالحكم، والدليل على أنها لم تكن تعلم الحكم؛ قولها كما في صحيح مسلم: إنما أرضعتني المرأة، ولم يرضعني الرجل؟ ! (٥)، وليكن كذلك سبب ما جاء عن غيرها، وإذا رأيت لبعضهم نقلين في المسألة؛ كطاوس؛ ظهر لك أن هذا هو السبب.

ويشير إلى هذا ما روى ابن حزم بسنده إلى الأعمش؛ قال: كان عمارة وإبراهيم وأصحابنا لا يرون بلبن الفحل بأسًا - أي: لا يجعلونه محرمًا من قِبَله -، حتى أتاهم الحكم بن عتيبة بخبر أبي القعيس. (٦)

ثم علق أبو محمد ابن حزم بقضية منهجية هامة جدًّا، فقال: هكذا يفعل أهل العلم، لا كمن يقول: أين كان فلان وفلان عن هذا الخبر؟ ا. هـ (٧)

وهذا ليس بمستغرب إذا علمت أنه تكرر في غير مسألة؛ فإنك تجد النقول عمن كان في صدر الإسلام أنه يقول بعدم تعلق التحريم فيما دون الرضعات العشر، مع ورود نسخها صريحًا صحيحًا.

وعدم إدراك المسألة بهذا التسلسل قد يربك الفقيه، ولذلك توقف في حكم لبن الفحل طائفة من الفقهاء في صدر الإسلام؛ كالذي يروى عن مجاهد، وابن سيرين. (٨)

وقد تأول بعضهم فعل عائشة الأول المبني على على عدم إقرار التحريم بلبن الفحل، فقال: إن للمرأة أن تحتجب ممن شاءت من ذوي محارمها (٩)، وهذا وإن كان لها أن تفعله؛ إلا أن تخصيصها - رضي الله عنها - بالاحتجاب عمن أرضعته نساء أبيها، ونساء إخوتها، ونساء بني أخواتها، دون من أرضعته أخواتها، وبنات أخواتها؛ لا يمكن إلا للوجه الذي المذكور، لا سيما مع تصريح ابن الزبير المتقدم - وهو من أخص الناس بها - بأن لبن الفحل لا يحرم، وأفتى القاسم بذلك. (١٠)

والظاهر أن أقوال المسلمين قد اجتمعت بعد ذلك على تحريم لبن الفحل، من دون مخالف يذكر، وإن كان ابن القيم قد قرر عدم إمكان دعوى الإجماع في هذه المسألة، وأن من ادعاه فهو كاذب، ثم نسب القول بتحريم لبن الفحل إلى جمهور أهل الإسلام (١١)، وأردف: إن لبن الفحل يحرم، وإن التحريم ينتشر منه - يريد: الفحل زوج المرضع - كما ينتشر من المرأة، وهذا


(١) كاستدلالهم بعموم قول الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخْوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [سورة النساء: ٢٣]، ولم يذكر العمة ولا البنت كما ذكرهما في النسب، ويجاب: بما قال عطاء: هي أختك من أبيك ا. هـ، وهو زوج المرضع الذي كان نزول اللبن بفعله، وبأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه، ولا سيما وقد جاءت الأحاديث الصحيحة.
ثم هم يناقشون هذه الأحاديث الصحيحة المشار إليها في الجواب الثاني بأنها زيادة على ما في القرآن، والزيادة نسخ، والسنة لا تنسخ القرآن.
ويجاب: بأن السنة بينت مراد الكتاب، لا أنها خالفته، وغايتها أن تكون أثبتت تحريم ما سكت عنه، أو تخصيص ما لم يرد عمومه
ينظر: عبد الرزاق: المصدر السابق، (٧/ ٤٧١ - ٤٧٢). ينظر: ابن القيم: المصدر السابق (٥/ ٥٦٥ - ٥٦٥). ابن حجر: المصدر السابق، (١١/ ٣٩٢).
(٢) كقولهم: إن اللبن لا ينفصل من الرجل وإنما ينفصل من المرأة؛ فكيف تنتشر الحرمة إلى الرجل؟ ويجاب: بأنه قياس في مقابلة النص، فلا يلتفت إليه، وبأن سبب اللبن هو ماء الرجل والمرأة معًا؛ فإنه ثار بوطء الأب والأم وعاء له، فوجب أن يكون الرضاع منهما؛ كالجد لما كان سبب الولد أوجب تحريم ولد الولد به لتعلقه بولده؛ كما تقدم قريبًا في قول ابن عباس: اللقاح واحد ا. هـ، وبأن الوطء يدر اللبن فللفحل فيه نصيب.
ينظر: ابن قدامة: المصدر السابق، (٩/ ٥٢١). ابن القيم: المصدر السابق (٥/ ٥٦٧). ابن حجر: المصدر السابق، (١١/ ٣٩٢).
(٣) ابن قدامة: المصدر السابق، (٩/ ٥٢٢).
(٤) وقد صححه إليها ابن حجر. ينظر: ابن حجر: المصدر السابق، (١١/ ٣٩٣).
(٥) تقدم تخريجه قريبًا في هذا المبحث.
(٦) ينظر: ابن حزم المصدر السابق، (١٠/ ٦).
(٧) ينظر: ابن حزم المصدر السابق، (١٠/ ٦).
(٨) ينظر: ابن حزم المصدر السابق، (١٠/ ٦).
(٩) ينظر: ابن حزم المصدر السابق، (١٠/ ٨).
(١٠) ينظر: ابن حزم المصدر السابق، (١٠/ ٨).
(١١) ينظر: ابن القيم: المصدر السابق، (٥/ ٥٦٠ - ١٦١).

<<  <   >  >>