ومنها أن يهتم بأمر فيرفع له صورة حسنة، ويجعل له مثلا يعلم به حسن استمرار ذلك الأمر له، ويأتيه على ما يريده، كما روي أن حلفاءه من مكة لما جاؤوه يشكون قريشا إليه، ويذكرون أنهم نقضوا العهد، نظر إلى سحابة بيضاء فقال: أن هذه السحابة لتسهل بنصر بتي كعب، ويحتمل أن تلك السحابة كانت تضيء إضاءة فوق المعتاد من مثلها، وكان في مرها تنجو مكة، فعلم أنها مثل ضرب لمصيبة إليها، وإشراقها بنور دعوته، وحيرة قلوب أهلها بتركه، كما تحيا الأرض بالمطر النازل من السحاب والله أعلم.
ومنها الرؤية وهي تبشير أو إنذار أو تعليم، وربما الأنبياء صلوات الله عليهم يفارق رؤيا غيرهم من أوجه، أحدهما: أن ما استوي منها واعتدل وانتظم بعضها ببعض حتى صار للتأويل بحا محال صدق منهم بكل حال، وأما غيرهم فقد يصدق منهم وقد لا يصدق، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا تقارب الزمان لم نكاد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا. وهذا والله أعلم أن النبي لا يكذب ولا يكذب فلا يكذب أن رؤياهم كانت منهم قبل نفسهم فكذبته نفسه، فإن نفسه معصومة من الكذب ومن الهم به، وليس وراء ذلك إلا أن يقال: أنها من الله عز وجل فهو تبارك اسمه من الكذب أبعد.
والوجه الآخر الذي يجوز أن يعلم للإحكام في منامه، ولا يجوز ذلك لغيره ممن ليس بنبي كما يوحى إليه بذلك في يقظته، ولا يكون ذلك لغير نبي.
والوجه الثالث: يجوز أن يضرب من الأمثال الدقيقة الغامضة ما لا يضرب لغيره لأنه بقوة عقله وذكاء فهمه وسداد رأيه يكمل لإدراكها، ولا يتسع ذلك لمن لا يكائفه في أحواله.
فإن قال قائل: إذا كانت الرؤيا الصالحة جزءا من ستة وأربعين جزءا من النبوة، فلم جاز أن يكون للكافر فيها نصيب، ونفسه ليست موضعا للنبوة وقد ذكر جالينوس: أنه عرض له قدم في الموضع الذي يتصل بالكبد منه بالحجاب فأمره الله جل ثناؤه في المنان أن يفصد العرق الضارب من كفه اليسرى ففعل ذلك وبرا!