بنى زنكى وبنى أيوب قد حفز الهمم إلى تأليف سلسلة من التواريخ، وكان ممن اجتذبهم إلى هذا اللون من التصنيف عماد الدين الإصفهانى المتوفى عام ٥٩٧ هـ (١٢٠١ م) وهو آخر من يمثل مدرسة فارس والعراق التي تؤثر الكتابة المسجوعة. غير أن الشآميين نبذوا ذلك الأسلوب المنثور المنمق وفضلوا عليه نثرا أكثر استقامة وقربا من الطبيعة، وهو أمر عاد على التأريخ العربي فيما بعد بأجزل الفوائد؛ وان ما صنفه بهاء الدين بن شداد المتوفى سنة ٦٣٢ هـ (١٢٣٤ م) وأبو شامة المتوفى عام ٦٦٥ هـ (١٢٦٨ م) في التراجم ليفوق ما صنفه عماد الدين في نفس الموضوع بمراحل.
والحق إن التواريخ المسجوعة كانت تعود إلى الظهور بين الحين والحين، بل إن الكاتب المصري ابن عبد الظاهر المتوفى عام ٦٩٢ هـ (١٢٩٣ م) قد ابتدع أسلوبا جديدا بتأليفه تأريخ السلطان بيبرس شعرا، غير أنه من الواضح أن هذا التطور لا يعزى إلى أي مؤثر خارجى، شأنه في ذلك شأن استخدام المنشئ بدر الدين بن حبيب المتوفى سنة ٧٧٩ هـ (١٣٣٧ م) السجع في تاريخه، ولكن السيرة المسجوعة المشهورة التي نظمها ابن عربشاه الدمشقي المتوفى عام ٨٥٤ هـ (١٤٥٠ م) في هجاء تيمور هي بدون ريب متأثرة بالكتابات الفارسية المعاصرة (انظر فقرة (٢) ٢ أسفلها).
ونجد من جهة أخرى أن تأريخ البلاغة على عهد الفاطميين الذي ألفه الداعى اليمنى عماد الدين إدريس بن الحسن المتوفى عام ٨٦٢ هـ (١٤٦٧ م) وسماه عيون الأخبار هو كتاب يشعر قارئوه شعورا عجيبا بأنه يشبه أن يكون صدى متأخرا للرواية الساسانية القديمة (انظر فقرة ١، ٤).
وقد سار المماليك سيرة أسلافهم الأيوبيين وشملوا برعايتهم كتاب التأريخ، وظلت دمشق وحلب مقرين لرواة بعيدى الهمة، وان كانت الثانية لا تستطيع أن تجارى الأولى في هذا المضمار. وعلى الرغم من أنه كانت هناك بعض الصلة المتبادلة بين رواية القاهرة ورواية هاتين المدينتين فإن هذه الرواية كانت تتميز بشيء من الاستقلال وبخاصة في باب التراجم