للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومقام المدح مثل مقام الفخر في حاجته إلى تأكيد الصفات التي يخلعها الشاعر على ممدوحه، ولهذا فإنك ترى الشعراء - في مدحهم - يعمدون إلى هذا الأسلوب - أعني تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي - لتأكيد إثبات الصفات التي يمدحون بها.

استمع إلى قول المعذل بن عبد الله الليثي يمدح النهس بن ربيعة العتكي وكان النهس يكفل عنه ما يلزمه من المال، فوقع المعذل يوماً، وقبض عليه فأدركه النهس وحمله على فرس وأمره أن ينجو بنفسه وأسلم نفسه مكانه، فلما نجا قال له المعذل: أخيرك بين أن أمدحك، أو أمدح قومك، فاختار مدح قومه، فقال (١):

جزى الله فتيان العتيك وإن فات ... بي الدار عنهم خير ما كان جازيا

هموا خلطوني بالنفوس وأكرموا ... الصحابة لما حم ما كنت لاقيا

هموا يفرشون اللبد كل طمرة ... وأجرد سباح يبذ المغالبا

طعامهم فوضى قضا في رحالهم ... ولا يحسنون السر إلا تناديا ...

كأن دنانيراً على قسماتهم ... إذا الموت للأبطال كان تحاسبا

فالشاعر يطلب لهؤلاء القوم من الله الجزاء الأوفى، لأنهم أحسنوا إكرامه، وأكرموا صحبته حين ألم به الضرر، ولقى منهم الأمر العظيم، فهم خلطوه بأنفسهم، أي أنزلوه منهم منزلة أنفسهم، وهم فرسان يقتعدون صهوات الخيل الكريمة، ولا يستأثر بعضهم على بعض فيما يأكلون ولا يفعلون قبيحاً، وإذا ما شرب الأبطال كؤوس الموت قليلاً، وجدتهم يقدمون عليه إقدام المسرور به الذي تهلهل وجهه للقائه فرحاً وبشراً.


(١) ديوان الحماسة لأبي تمام، ج ٢، ص ٣٣٤.

<<  <   >  >>