للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وعقب ذلك بقوله: ﴿عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ أي: غير مقطوع، قاله مجاهد وابن عباس وأبو العالية وغير واحد (١). لئلا يتوهم متوهم بعد ذكره المشيئة أن ثم انقطاعًا أو لبسًا أو شيئًا، بل حتم له بالدوام وعدم الانقطاع، كما بيّن هناك أن عذاب أهل النار في النار دائمًا مردود إلى مشيئته وأنه بعدله وحكمته عذبهم، ولهذا قال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ [هود: ١٠٧] كما قال: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (٢٣)[الأنبياء].

وهنا طيّب القلوب وثبت المقصود بقوله: ﴿عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾.

وقد جاء في الصحيحين: "يؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيذبح بين الجنة والنار ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت" (٢).

وفي الصحيح أيضًا: "فيقال: يا أهل الجنة إن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدًا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدًا، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا" (٣).

﴿فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١)﴾.

يقول تعالى: ﴿فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ﴾ المشركون إنه باطل وجهل وضلال، فإنهم إنما يعبدون ما يعبد آباؤهم من قبل، أي: ليس لهم مستند فيما هم فيه إلا اتباع الآباء في الجهالات وسيجزيهم الله على ذلك أتمّ الجزاء، فيعذب كافرهم عذابًا لا يعذبه أحدًا وإن كان لهم حسنات، فقد وفّاهم الله إياها في الدنيا قبل الآخرة.

قال سفيان الثوري، عن جابر الجعفي، عن مجاهد، عن ابن عباس: ﴿وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ﴾ قال: ما وعدوا من خير أو شر (٤).

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لموفوهم من العذاب نصيبهم غير منقوص (٥).

ثم ذكر تعالى أنه آتى موسى الكتاب فاختلف الناس فيه فمن مؤمن به ومن كافر به، فلك بمن سلف من الأنبياء قبلك يا محمد أسوة، فلا يغيظنَّك تكذيبهم لك ولا يهمنَّك ذلك.

﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ قال ابن جرير: لولا ما تقدم من تأجيله العذاب إلى


(١) قول ابن عباس أخرجه الطبري بسند ثابت من طريق ابن أبي طلحة عنه، وقول مجاهد أخرجه الطبري بسند صحيح من طريق ابن أبي نجيح عنه، وقول أبي العالية أخرجه الطبري بسند جيد من طريق الربيع بن أنس.
(٢) صحيح البخاري، التفسير، باب ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ. . .﴾ [مريم: ٣٩] (ح ٤٧٣٠)، وصحيح مسلم، الجنة، باب النار يدخلها الجبارون … (ح ٢٨٤٩).
(٣) أخرجه مسلم، الصحيح، الجنة، باب في دوام نعيم أهل الجنة (ح ٢٨٣٧).
(٤) أخرجه الطبري وابن أبي حاتم من طريق الثوري به، وسنده ضعيف لضعف جابر الجعفي، ومعناه صحيح.
(٥) أخرجه الطبري بسند صحيح من طريق عبد الله بن وهب عن عبد الرحمن.