لقد حقّق الحافظ الناقد البصير، أبو عمر بن عبد البرّ: هذا الموضوع في كتابه "التمهيد" أتمّ تحقيق، وبيّنه وأحسن تبيين، فأطال وأعاد، وأسهب وأجاد، وأجمل وأفاد، أحببت إيراده هنا تتميمًا للفوائد، ونشرًا للعوائد.
قال عند شرح حديث النزول، وهو حديثٌ عن مالك، عن ابن شهاب، عن أبي عبد اللَّه الأغر، وعن أبي سلمة، عن أبىِ هريرة، أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال:"ينزل ربنا تبارك وتعالى كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيبَ له؟ من يسألني فأعطيَهُ؟، من يستغفرني فأغفرَ له؟ ".
قال أبو عمر -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وفيه دليل على أن اللَّه -عزَّ وجلَّ- في السماء، على العرش، من فوق سبع سموات، كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة والجهمية، في قولهم: إن اللَّه -عزَّ وجلَّ- في كل مكان، وليس على العرش.
قال: والدليل على صحة ما قاله أهل الحقّ في ذلك قول اللَّه -عزَّ وجلَّ-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (٥)} [طه: ٥]، وقوله -عزَّ وجلَّ-: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ}[السجدة: ٤]، وقوله:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ}[فصّلت: ١١]، وقوله:{إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا}[الإسراء: ٤٢]، وقوله تبارك اسمه:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}[فاطر: ١٠]، وقوله تعالى:{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ}[الأعراف: ١٤٣]، وقال:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ}[الملك: ١٦]، وقال جل ذكره: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١)} [الأعلى: ١]، وهذا من العلوّ، وكذلك قوله:{الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}[البقرة: ٢٥٥] و {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ}[الرعد: ٩] و {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ}[غافر: ١٥] و {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ}[النحل: ٥٠].