للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث / الرقم المسلسل:

تعطيل العبوديّة، فلم يُرخّص -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له، وذلك أن إخبار الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن سابق الكتاب، إخبار عن غيب علم الله تعالى فيهم، وهو حجة عليهم، فرام القوم أن يتخذوه حجة لأنفسهم في ترك العمل، فأعلمهم النبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن هنا أمرين مُحكَمين، أحدهما لا يُبْطِلُ الآخر: باطن، وهو الحكمة الموجبة في حكم الربوبية، وظاهر، وهو السمة اللازمة في حق العبودية، وهو أمارة ومُخَيَّلةٌ، غير مفيدة حقيقة العلم، ويشبه أن يكون -والله أعلم- إنما عوملوا بهذه المعاملة، وتُعُبِّدوا بهذا التعبّد؛ ليتعلّق خوفهم ورجاؤهم بالباطن، وذلك من صفة الإيمان، وبَيَّنَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لهم أن كلًّا ميسَّر لِمَا خُلق له، وأن عمله في العاجل دليلُ مصيره في الآجل، وتلا قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦)}، {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨)} [الليل: ٥ - ٨]، وهذه الأمور في حكم الظاهر، ومن وراء ذلك حُكم الله تعالى فيهم، وهو الحكيم الخبير: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (٢٣)} [الأنبياء: ٢٣].

واطلب نظير ذلك من أمرين: الرزق المقسوم مع الأمر بالكسب، والأجل المضروب مع المعالجة بالطبّ، فإنك تجد المعتبَر فيهما علّة موجبة، والظاهر البادي سببًا مُخيّلًا، وقد اصطلح الناس خواصّهم وعوامهم على أن الظاهر منها لا يُترك بالباطن. انتهى (١).

وقال الخطابيّ في "معالم السنن": هذا الحديث إذا تأملته أصبت منه مما يتخالج في الضمير من أمر القدر، وذلك أن القائل: "أفلا نتكل، وندع العمل" لم يترك شيئًا مما يَدخُل في أبواب المطالبات والأسئلة الواقعة في التجويز والتعديل إلا وقد طالب به، وسأل عنه، فأعلمه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن القياس في هذا الباب متروك، والمطالبة عليه ساقطة، وأنه لا يشبه الأمور المعلومة التي قد عُقلت معانيها، وجَرَت معاملات البشر فيما بينهم عليها، وأخبر أنه إنما أمرهم بالعمل ليكون أمارة في الحال العاجلة لِمَا يصيرون إليه في الحال الآجلة، فمن تيسّر له العمل الصالح كان مأمولًا له الفوز، ومن تيسّر له العمل الخبيث كان مخوفًا عليه الهلاك.


(١) راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" ٢/ ٥٣٨ - ٥٣٩.