للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث / الرقم المسلسل:

أُلقي فيها حتى يَنْزَوِي بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط، بعد قولها: هل من مزيد، وأما الجنة فيبقى فيها فضل عمن يدخلها من أهل الدنيا، فيُنشئ الله لها خلقًا آخر، ولهذا كان الصواب الذي عليه الأئمة فيمن لم يُكَلَّف في الدنيا من أطفال المشركين، ونحوهم، ما صحّ به الحديث، وهو أن الله أعلم بما كانوا عاملين، فلا نحكم لكل منهم بالجنة، ولا لكل منهم بالنار، بل هم ينقسمون بحسب ما يظهر من العلم إذا كُلِّفوا يوم القيامة في العرضات، كما جاءت بذلك الآثار.

وكذلك قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦)} [فصلت: ٤٦] يدلّ الكلام على أنه لا يظلم محسنًا، فينقصه من إحسانه، أو يجعله لغيره، ولا يظلم مسيئًا، فيجعل عليه سيئات غيره، بل لها ما كسبت، وعليها ما اكتسبت، وهذا كقوله: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (٣٦) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: ٣٦ - ٣٩]، فأخبر أنه ليس على أحد من وِزْر غيره شيء، وأنه لا يستحقّ إلا ما سعاه، وكلا القولين حقّ على ظاهره، وإن ظنّ بعض الناس أن تعذيب الميت ببكاء أهله عليه ينافي الأول، فليس كذلك؛ إذ ذلك النائح يعذَّب بِنَوْحه، لا يَحْمِل الميت وِزره، ولكن الميت يناله ألمٌ مِن فِعل هذا، كما يتألم الإنسان من أمور خارجة عن كسبه، وإن لم يكن جزاء الكسب والعذاب أعمّ من العقاب، كما قال: "السفر قطعة من العذاب".

وكذلك ظنّ قوم أن انتفاع الميت بالعبادات البدنية من الحيّ ينافي قوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (٣٩)} فليس الأمر كذلك، فإن انتفاع الميت بالعبادات البدنية من الحيّ بالنسبة إلى الآية كانتفاعه بالعبادات المالية، ومن ادّعَى أن الآية تُخالف أحدهما دون الآخر، فقوله ظاهر الفساد، بل ذلك بالنسبة إلى الآية كانتفاعه بالدعاء والاستغفار، والشفاعة، وقد بينّا في غير هذا الموضع نحوًا من ثلاثين دليلًا شرعيًّا يبيّن انتفاع الإنسان بسعي غيره؛ إذ الآية إنما نفت استحقاق السعي ومُلكه، وليس كل ما لا يستحقه الإنسان، ولا يملكه لا يجوز أن يُحسن إليه مالكه ومستحقه بما ينتفع به منه، فهذا نوع، وهذا نوع، وكذلك ليس كل ما لا يملكه الإنسان لا يحصل له من جهته منفعة، فإن هذا كَذِب في الأمور الدينية، والدنيوية.