٢٦ - (ومنها): شدّة رأفة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - على أمته، حيث سعى في التخفيف عنها عن خمسين صلاة، فظهر به مصداق قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٢٨)} [التوبة: ١٢٨]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في قصّة الإسراء:
(اعلم): أنهم اختَلَفوا في الإسراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقيل: إنما كان جميع ذلك في المنام، والحقّ الذي عليه أكثر الناس ومعظم السلف وعامة المتأخرين من الفقهاء، والمحدثين، والمتكلمين، أنه أُسري بجسده - صلى الله عليه وسلم -، والآثار الكثيرة التي أوردها المصنّف في هذا الباب، وكذا غيره من المحدّثين، وأهل السير في كتب السنّة واضحة في الدلالة على ذلك من طالعها، وبحث عنها، وتأمّلها حقّ تأمّل، ولا يُعدَل عن ظاهرها إلا بدليل، ولا استحالة في حملها عليه فيُحتاجَ إلى تأويل.
وقد جاء في رواية شريك في هذا الحديث في الكتاب أوهام أنكرها عليه العلماء، وقد نَبّه مسلم على ذلك بقوله:"فقدَّم وأخَّر، وزاد ونقَّص".
فمن ذلك قوله:"وذلك قبل أن يُوحَى إليه"، وهو غلطٌ بلا شكّ، فإن الإسراء أقلُّ ما قيل فيه: إنه كان بعد مبعثه - صلى الله عليه وسلم - بخمسة عشر شهرًا، وقال الحربيّ: كان ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة، وقال الزهريّ: كان ذلك بعد مبعثه - صلى الله عليه وسلم - بخمس سنين، وقال ابن إسحاق: أُسْرِي به - صلى الله عليه وسلم -، وقد فشا الإسلام بمكة والقبائل.
وأشبه هذه الأقوال قول الزهري وابن إسحاق؛ إذ لم يَختلفوا أن خديجة - رضي الله عنها - صلَّت معه - صلى الله عليه وسلم - بعد فرض الصلاة عليه، ولا خلاف أنها تُوفيت قبل الهجرة بمدة، قيل: بثلاث سنين، وقيل: بخمس.
ومنها أن العلماء مجمعون على أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء، فكيف يكون هذا قبل أن يُوحَى إليه.
وأما قوله في رواية شريك:"وهو نائم"، وفي الرواية الأخرى:"بينا أنا عند البيت، بين النائم واليقظان"، فقد يحتج به مَن يجعلها رؤيا نوم، ولا حجة فيه؛ إذ قد يكون ذلك حالة أول وصول الملك إليه، وليس في الحديث ما يدل