للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أحدهما: قال بعض الأصحاب: لا يزيد الخيار على ثلاثة أيام، لأنها نهاية الخِيَار المشروط شرعاً.

والثاني: أنه لو لم يتفرقا، ولكن شرعا في أمر آخر وأعرضا عمَّا يتعلّق بالعقد


= قلنا فيما سبق: إن المراد بالفرقة فرقة الأبدان، فلو أقاما ما شاء الله أن يقيما لم يبرحا مكانهما أو مشيا معاً سوياً فراسخ وأميالاً، فالخيار باق ولكل منهما فسخ البيع أن أراد وهذا أمر متفق عليه، ولا يعول على رأي بعض الشافعية أنه لا ينبغي أن تزيد مدته على ثلاثة أيام كخيار الشرط، أو ألا يشرعا في أمر آخر بعد إعراضاً عن البيع عرفاً، فإنها آراء شاذة في المذهب -فضلاً عن أنها مصادقة لإطلاق الحديث. وكذلك اتفقوا على أن أحدهما لو فارق المجلس وبقي الآخر فيه أن البيع يلزمهما معاً، وهذا بخلاف الاختيار حيث يلزم البيع المختار وحده. أما وجه الفرق بينهما فلم أره لأحد. ولعله هو أن الفرقة تشملهما معاً عرفياً فيما لو فارق أحدهما صاحبه فيصدق عليهما أنهما افترقا، وهذا بخلاف الاختيار لا يكون وصفاً لهما مما لو اختار أحدهما فقط، إنما يكون وصفاً له فاستتبع أثره من لزوم العقد في حقه. والتفرق قد ورد مطلقاً في الشرع لم يبين له حد يرجع إليه عند الاختلاف، فدل ذلك على أن الشارع أراد ما يتعارفه الناس منه، فما عدوه تفرقا قطع الخيار، وما لم يعدوه لم يقطعه، وقد ضرب الفقهاء لذلك أمثلة كثيرة فيما لو كانا في بيت، أو سوق، أو صحراء، أو في عرض البحر في سفينة، وليس من شأننا استقصاء هذه الأمثلة ما دمنا قد بينا القاعدة التي تدور عليها وترد إليها.
أما هل يجوز: لأحدهما مفارقة صاحبه خشية أن يفسخ البيع؟ فنقول: اتفق الفقهاء على أن أحدهما لو فارق صاحبه لا على هذه النية بل لطارئ من الطوارئ التي تستدعي مفارقة المجلس جاز له ذلك. بل لو فارق على نية إبرام البيع بدون أن يخاتل صاحبه أو يخادعه يكون موسعاً عليه -إن شاء الله تعالى-. ولكنهم اختلفوا في المفارقة خشية الفسخ. فالشافعية والظاهرية على حل ذلك، وهو رواية عن أحمد، وقد استدلوا بما روي عن ابن عمر -رضي الله عنه-: "بعت من أمير المؤمنين عثمان مالاً بالوادي بمال له بخيبر فلما تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من بيته خشية أن يرادني البيع"، رواه البخاري، وهو صريح في أن المفارقة كانت خشية الرد. والحنابلة على الصحيح عندهم على أن المفارقة على هذه النية حرام لما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "البِيعُ وَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ حَتْى يَتَفَرَّقَا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَه" رواه أصحاب السنن الأربعة إلا ابن ماجة، ورواه أحمد، والبيهقي، وحسنه الترمذي، وهو نفي في الحرمة؛ لأنه نفي الحل من صيغ التحريم شرعاً. وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده تلقاه الناس بالقبول، فصار المصير إلى العمل برواية هذه واجباً. فقول ابن حزم لو صح هذا الحديث لقلنا به، ولكنه لم يصح لا يقدح في العمل بموجبه لتحسين الترمذي له. وقد ذكر الأثرم عن أحمد أنه ذكر له فعل ابن عمر، وحديث عمرو بن شعيب، فقال -هذا الآن قول النبي -صلى الله عليه وسلم-. أما الأولون فقد حملوا حديث عمرو هذا على الاستحباب، وجعلوه من باب الإرشاد، وحسن المعاملة، ولا دليل لهم على هذا ألبتة، وعلى أي حال فالمفارقة خشية الفسخ سواء كانت حلالاً أو حراماً قاطعة للخيار ملزمة للبيع لم يخالف في هذا أحد من الفقهاء الدين قالوا بمشروعية خيار المجلس؟ انتهى كلام شيخنا الشيخ مندور.

<<  <  ج: ص:  >  >>