للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

-عليه السّلام- (١)، ولا يراه أحد غيره.

فهذا أدرك نبيّك أنّها العبد ما لم تدرك، فاعلم أنّه يَرَى مِنْ حيث لا تَرَى وذلك سواءٌ، ولا يستبعدُ ذلك إلَّا جاهلٌ فقد خَلَقَ اللهُ المرآةَ دليلًا على غَيْبِ القُدْرةِ، فانظر (٢) ترى فيها نفسك وترى فيها ما وراءك، وليس الّذي تراه في المرآة مثالًا، بل هو نفس المرئيّ بعينه.

والدّليلُ القاطع على ذلك: أنّ المرآة تكون في غِلَظِ قِشْرِ البيضة، ثم تقابلُ بها وجهَكَ، فَتَدْنُو من المرآة فَتَرى الدُّنُوَّ فيها، وتبعدُ عنها فترى البُعْدَ فيها، ومحالٌ أنّ يكون ذلك الدُّنُّوُّ والبُعْدُ الكثير في غِلَظِ قشر البيضة، فدَلَّ على أنّ الّذي تُدْرِك إنّما هو حقيقة المرئيّ.

الجواب الثّاني (٣): وقال آخَرون من علمائنا (٤): إنّ رسولَ الله - صلّى الله عليه وسلم - كانت فضائله تزيدُ في كلّ يومٍ وفي كلِّ وقتٍ إلى أنْ ماتَ، ألَّا ترى أنّه كان عبدًا عربيَّا ثم كان نبيًّا ثمّ رسولًا (٥)، ولم يعرف أنّه خير من موسى ولا يُونُس بن مَتَّى حتّى أَوْحَى اللهُ إليه أنّه خير وَلَدِ آدم (٦)، وفي ذلك الوقت قال "إنِّي أراكُمْ مِن وَرَاءِ ظَهْرِي".

وقد تَعَرَّض بعضُ الشّارِحِينَ للحديث فقال: قوله: "إنِّي أَرَاكُمْ" إنّما هي بمعنى أعلم، كما قال حاكيا عن شُعَيب - وكانَ أَعْمَى-: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} (٧) أي: أعلم، فأرى بمعنى أعلم في لسان العرب. فأراد بقوله: "فإِنِّي أَرَاكُمْ" أعلم خشوعَكُم وتمامَ ركوعكم، بما يُلْقِي اللهُ في قلبي من العِلْمِ بذلك والمعرفة باحوالكم.

وهذه دَعْوَى فيها تحديدٌ للمُخَالفةِ للظَّاهر (٨).


(١) أخرجه البخاريّ (٣٢٣٢)، ومسلم (١٧٤) من حديث ابن مسعود.
(٢) في القبس: "فإنّك".
(٣) هذا الجواب مقتبس من الاستذكار: ٦/ ٢٧٣ - ٢٧٤.
(٤) المقصود هو الإمام ابن عبد البرّ.
(٥) إشارة إلى الحديث الّذي رواه عبد الرّزاق (٣٠٧٦) عن عطاء، قال: وبينا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُ التّشهُّدَ، فقال رجلٌ: وأشهد أنّ محمّدًا رسوله وعبده، فقال النَّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -: "قد كنت عبدًا قبل أنّ أكون رسولًا، قل: وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسولها. يقول ابن حجر في الفتح: "ورجاله ثقات، إلَّا أنّه مُرْسَلٌ".
(٦) أخرجه الخلال الّذي السُّنَّة (٣٢٤) من حديث أبي هريرة.
(٧) هود: ٨٤.
(٨) في الاستذكار: "تحديدٌ لمخالفة الظّاهر".

<<  <  ج: ص:  >  >>