للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الشَّيْخِ أَبِي يَزِيدَ حَيْثُ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ لَا أُرِيدَ إلَّا مَا يُرِيدُ.

أَيْ الْمُرَادُ الْمَحْبُوبُ الْمَرْضِيُّ؛ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْإِرَادَةِ الدِّينِيَّةِ وَكَمَالُ الْعَبْدِ أَنْ لَا يُرِيدَ وَلَا يُحِبَّ وَلَا يَرْضَى إلَّا مَا أَرَادَهُ اللَّهُ وَرَضِيَهُ وَأَحَبَّهُ، وَهُوَ مَا أَمَرَ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ؛ وَلَا يُحِبُّ إلَّا مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ.

وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ فِي قَوْلِهِ: {إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: ٨٩] ، قَالُوا: هُوَ السَّلِيمُ مِمَّا سِوَى اللَّهِ، أَوْ مِمَّا سِوَى عِبَادَةِ اللَّهِ، أَوْ مِمَّا سِوَى إرَادَةِ اللَّهِ، أَوْ مِمَّا سِوَى مَحَبَّةِ اللَّهِ، فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهَذَا الْمَعْنَى إنْ سُمِّيَ فَنَاءً أَوْ لَمْ يُسَمَّ هُوَ أَوَّلُ الْإِسْلَامِ وَآخِرُهُ. وَبَاطِنُ الدِّينِ وَظَاهِرُهُ.

وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: فَهُوَ " الْفَنَاءُ عَنْ شُهُودِ السِّوَى ".

وَهَذَا يَحْصُلُ لِكَثِيرٍ مِنْ السَّالِكِينَ، فَإِنَّهُمْ لِفَرْطِ انْجِذَابِ قُلُوبِهِمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَضَعْفِ قُلُوبِهِمْ عَنْ أَنْ تَشْهَدَ غَيْرَ مَا تَعْبُدُ وَتَرَى غَيْرَ مَا تَقْصِدُ؛ لَا يَخْطِرُ بِقُلُوبِهِمْ غَيْرُ اللَّهِ؛ بَلْ وَلَا يَشْعُرُونَ؛ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} [القصص: ١٠] قَالُوا: فَارِغًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى.

وَهَذَا كَثِيرٌ يَعْرِضُ لِمَنْ فَقَمَهُ أَمْرٌ مِنْ الْأُمُورِ إمَّا حُبٌّ وَإِمَّا خَوْفٌ.

وَإِمَّا رَجَاءٌ يَبْقَى قَلْبُهُ مُنْصَرِفًا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا عَمَّا قَدْ أَحَبَّهُ أَوْ خَافَهُ أَوْ طَلَبَهُ؛ بِحَيْثُ يَكُونُ عِنْدَ اسْتِغْرَاقِهِ فِي ذَلِكَ لَا يَشْعُرُ بِغَيْرِهِ.

فَإِذَا قَوِيَ عَلَى صَاحِبِ الْفَنَاءِ هَذَا فَإِنَّهُ يَغِيبُ بِمَوْجُودِهِ عَنْ وُجُودِهِ، وَبِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ، وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ، وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، حَتَّى يَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ وَهِيَ الْمَخْلُوقَاتُ الْمُعْبَدَةُ مِمَّنْ سِوَاهُ، وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزُلْ وَهُوَ الرَّبُّ تَعَالَى. وَالْمُرَادُ فَنَاؤُهَا فِي شُهُودِ الْعَبْدِ وَذِكْرِهِ، وَفَنَاؤُهُ عَنْ أَنْ يُدْرِكَهَا أَوْ يَشْهَدَهَا.

وَإِذَا قَوِيَ هَذَا ضَعُفَ الْمُحِبُّ حَتَّى اضْطَرَبَ فِي تَمْيِيزِهِ فَقَدْ يَظُنُّ أَنَّهُ هُوَ مَحْبُوبُهُ، كَمَا يُذْكَرُ: أَنَّ رَجُلًا أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْيَمِّ فَأَلْقَى مُحِبُّهُ نَفْسَهُ خَلْفَهُ، فَقَالَ: أَنَا وَقَعْتُ فَمَا أَوْقَعَكَ خَلْفِي قَالَ: غِبْتُ بِكَ عَنِّي، فَظَنَنْتَ أَنَّكَ أَنِّي.

" وَهَذَا الْمَوْضِعُ " يَزِلُّ فِيهِ أَقْوَامٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ اتِّحَادٌ، وَأَنَّ الْمُحِبَّ يَتَّحِدُ بِالْمَحْبُوبِ حَتَّى لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ فِي نَفْسِ وُجُودِهِمَا، وَهَذَا غَلَطٌ؛ فَإِنَّ الْخَالِقَ لَا يَتَّحِدُ بِهِ شَيْءٌ أَصْلًا، بَلْ لَا يَتَّحِدُ شَيْءٌ بِشَيْءٍ إلَّا إذَا اسْتَحَالَا وَفَسَدَا وَحَصَلَ مِنْ اتِّحَادِهِمَا أَمْرٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>