وَيَقْرَأُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ لِاحْتِمَالِ النَّفْلِيَّةِ. وَلَهُمَا أَنَّهُ مُدْرِكٌ لِلْجُمُعَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ حَتَّى يَشْتَرِطَ نِيَّةَ الْجُمُعَةِ، وَهِيَ رَكْعَتَانِ، وَلَا وَجْهَ لِمَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فَلَا يَبْنِي أَحَدَهُمَا عَلَى تَحْرِيمَةِ الْآخَرِ.
(وَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَرَكَ النَّاسُ الصَّلَاةَ وَالْكَلَامَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِهِ) قَالَ ﵁: وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀، وَقَالَا: لَا بَأْسَ بِالْكَلَامِ إذَا خَرَجَ الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ يَخْطُبَ وَإِذَا نَزَلَ قَبْلَ أَنْ يُكَبِّرَ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ لِلْإِخْلَالِ بِفَرْضِ الِاسْتِمَاعِ وَلَا اسْتِمَاعَ هُنَا، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَمْتَدُّ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ﵀ قَوْلُهُ ﵊ «إذَا خَرَجَ الْإِمَامُ فَلَا صَلَاةَ وَلَا كَلَامَ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَلِأَنَّ الْكَلَامَ قَدْ يَمْتَدُّ طَبْعًا فَأَشْبَهَ الصَّلَاةَ.
مُخْتَلِفَانِ فَكَيْفَ يُصْبِحُ بِنَاءُ إحْدَاهُمَا عَلَى تَحْرِيمَةِ الْأُخْرَى. وَعُورِضَ بِأَنَّ فِيمَا ذَكَرْتُمْ تَجْوِيزَ الْجُمُعَةِ مَعَ عَدَمِ شَرْطِهَا، وَذَلِكَ فَاسِدٌ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَنْتَفِي عِنْدَ انْتِفَاءِ شَرْطِهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ وُجُودَهُ فِي حَقِّ الْإِمَامِ جُعِلَ وُجُودًا فِي حَقِّ الْمَسْبُوقِ كَمَا فِي الْقِرَاءَةِ، فَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ بِتَحْرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ فَمَا لَا يُوجَدُ بِحَالٍ، وَالْقَوْلُ بِمَا يُوجَدُ بِحَالٍ أَوْلَى مِنْهُ بِمَا لَا يُوجَدُ بِحَالٍ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ اسْتَدَلَّ لَهُمَا فِي أَوَّلِ الْبَحْثِ بِالْحَدِيثِ وَهُوَ أَقْوَى فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَهُمَا إلَخْ؟ قُلْت: لَا تَنَافِي فِي ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى مَطْلُوبٍ وَاحِدٍ بِالْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ، أَوْ كَانَ الْأَوَّلُ اسْتِدْلَالًا عَلَى مَا إذَا كَانَ الْمُدْرِكُ أَكْثَرَ، وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ الِاسْتِدْلَال لَهُمَا فَقَطْ بَلْ لَهُمْ جَمِيعًا، وَكَوْنُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ الثَّانِي لَهُمَا أَيْضًا لَا يُنَافِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَوَى الزُّهْرِيُّ بِإِسْنَادِهِ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ فَقَدْ أَدْرَكَهَا وَلِيُضِفْ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى، وَإِنْ أَدْرَكَهُمْ جُلُوسًا صَلَّى أَرْبَعًا» وَهَذَا كَمَا تَرَى نَصَّ عَلَى مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ، فَمَا وَجْهُ تَرْكِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ لِمُحَمَّدٍ؟ قُلْت: ضَعَّفَهُ فَإِنَّهُ مَا رَوَاهُ إلَّا ضُعَفَاءُ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ، وَأَمَّا الثِّقَاتُ مِنْهُمْ كَعُمَرَ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَمَالِكٍ فَقَدْ رَوَوْا عَنْهُ «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَقَدْ أَدْرَكَهَا» وَأَمَّا إذَا أَدْرَكَ مَا دُونَهَا فَحُكْمُهُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. وَمَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ ﷺ «وَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا» الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى مُدَّعَاهُمَا فَأَخَذَا بِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَتَأْوِيلُهُ أَدْرَكَهُمْ جُلُوسًا قَدْ سَلَّمُوا.
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ) يَعْنِي لِأَجْلِ الْخُطْبَةِ (تَرَكَ النَّاسُ الصَّلَاةَ وَالْكَلَامَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِهِ) يُرِيدُ بِهِ مَا سِوَى التَّسْبِيحِ وَنَحْوِهِ عَلَى الْأَصَحِّ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُلَّ كَلَامٍ (وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: لَا بَأْسَ بِالْكَلَامِ) قَبْلَ الْخُطْبَةِ وَبَعْدَهَا قَبْلَ التَّكْبِيرِ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْكَلَامِ إنَّمَا هِيَ بِاعْتِبَارِ الْإِخْلَالِ بِفَرْضِ الِاسْتِمَاعِ لِكَوْنِهِ فِي نَفْسِهِ مُبَاحًا وَلَا اسْتِمَاعَ فَلَا إخْلَالَ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا قَدْ تَمْتَدُّ فَتُفْضِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://www.shamela.app/page/contribute