للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي لفظ (حفت) (١) ، قال الإمام النووي (٢) ، عند شرح هذا الحديث: "فأما المكاره، فيدخل فيها الاجتهاد في العبادات، والمواظبة عليها، والصبر على مشاقها، وكظم الغيظ، والعفو، والحلم، والصدقة والإحسان إلى المسيء، والصبر عن الشهوات ... ونحو ذلك ".

وكذا الآيات والأحاديث الواردة في الدعوة إلى الصبر والترغيب فيه وبيان عظم أجر صاحبه، كل ذلك من أبرز الأدلة على ما يحتاجه الإنسان من الجلد والمجاهدة لما قد يلقاه من الابتلاء، ولكنها مشاق محتملة، يعقبها الأجر مع الصبر والاحتساب.

وإذا حصلت مشقة في أي عبادة في فعل مأمور به أو ترك منهي عنه، فالمشقة ليست مطلباً للشارع، بل العبادة هي المطلوبة، غير أنها لا تتحقق إلا بنوع من المشقة، وهنا يلاحظ أن العبادة التي لا يمكن تحقيقها إلا بمشقة بالغة لا ينظر فيها إلى جانب المشقة، ولكن ينظر إلى كون المصلحة راجحة، بحيث يهون بسببها تحمل المشاق العظيمة، وذلك كالجهاد في سبيل الله سبحانه، ذلك أن الشارع راعى – في أولويات المصالح المرعية – حفظ الدين، وهذا قد لا يتأتى إلا بإزهاق النفوس، والمشقة فيه عظيمة، لكنها تهون أمام إعزاز دين الله والتمكين له في الأرض، ودحر الطغيان والظلم، وإشاعة العدل، وبذلك يحفظ الدين وبحفظ الدين تحفظ الضروريات الأخرى من النفس، والمال، والدم، والعقل ... وعدم الجهاد معناه غلبة الكفار على المسلمين المؤدي إلى إهدار كل شيء من مصالح الدين والدنيا ولم يعدل الشارع إلى غير الجهاد من الوسائل الأخرى، إذا كان المقصود لا يتحقق إلا به، والمشقة المذكورة لا تنفك عنه، كما روعي في جانب الزجر عن ارتكاب بعض الجرائم، إيقاع بعض العقوبات التي تؤدي أيضاً إلى مشقة عظيمة، وذلك في بعض الحدود، مثل: قتل الزاني المحصن، وقطع يد السارق. .. وغيرهما، لما أن الزجر في حقهم مطلوب حفاظاً على دماء وأموال وأعراض الناس، ومراعاة المصالح العامة، مقدمة على مراعاة المصالح الخاصة عند التعارض، ولما كان العدول عن الشاق إلى ما هو أخف منه ممكناً، وجدنا أن الشارع يراعي ذلك في كثير من الأحكام.

فقد رخص للمريض عند عدم القدرة على القيام – في الصلاة – أن يصلي من قعود أو على جنب.

ورخص للمسافر، والمريض، والحامل – الخائفة على نفسها أو على ولدها – الفطر، وكذا المرضع، ورفع الإثم والمؤاخذة عن المكره، والناسي، والنائم، والمخطئ ....

وأسقط الصلاة عن الحائض والنفساء، كما أسقط عنهما الصوم حال ذلك، مع وجوب القضاء، وأسقط الصوم عن العاجز عنه، مع العدول إلى الكفارة ....

وشرع في قصر الصلاة الرباعية للمسافر، ورخص له في الجمع بين الصلاتين في بعض الأحوال.


(١) البخاري في الرقاق عن أنس: ٧ / ١٨٦؛ ومسلم برقم (٢٨٢٢) .
(٢) شرح صحيح مسلم: ١٧ / ١٦٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>