ففي هذا المحيط المضطرب من السياسات الذي كان يتنازع فيه على الظهور والغلبة والسلطة والحكم الأبناء مع الآباء، وبنو العمومة فيما بينهم مستنجدين في غالب الأحيان بالأجانب أو بالمرتزقة من الجند، ومعرضين ما يقيمونه من أنظمة ويتولونه من سلطان لما كان يهددهم من ثورات عنيفة وردود فعل ساحقة في داخل البلاد. فمن هجومات عسكرية غربية وحملات خارجية تنشر الرعب والدمار، إلى فتن تسبب تعاقبها فيما نكبت به البلاد والعباد من أوبئة ولحقهم من مسغبة وأفقد حياتهم الأمن والاستقرار وعاق المجتمع عن النهوض والتقدم. وفي ظل بعض الأمراء الذين كانوا رغم تلك الظروف والأحوال يعملون جاهدين من أجل التعمير والبناء وتحصين البلاد وتحقيق المنعة فكانت أوقافهم ومبراتهم سبيلًا للتخفيف على الناس ونشر السعة والرخاء بينهم، ومواقفهم الرشيدة وتطلعاتهم الشريفة سببًا في قيام حياة متميزة يتسابق إلى قيادتها المتنافسون من أولي العزم والحزم ورجال العلم والفكر، تكونت أسر علمية من أهل تونس ومن أبناء الجند التركي الوافد على البلاد فلمعت شخصيات فكرية حاولت قدر الطاقة خدمة البلاد ونشر المعرفة ووصل الثقافة المغربية المتوارثة عن الأزمنة الماضية المتقدمة والأدوار السابقة الراقية بما لقنوه من فقه وأقرأوه من كتب وبما تلقوه من أسانيد وإجازات وجمعوه من مصادر وأمهات وقرأوه من دواوين ومؤلفات على أئمة المشرق وشيوخه الذين التقوا بهم في مواسم الحج بالحرمين الشريفين فأقاموا عندهم ونزلوا بديارهم قبل الحج وبعده بمصر والإسكندرية يربطون الصلة العلمية بهم ويتعرفون إليهم ويجيزونهم بما عندهم من أسانيد وأثبات لم تكن تعرف في ديار المشرق.