وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهَا الْأَفْلَاكُ التِّسْعَةُ عَلَى وَفْقِ عَدَدِ الْمَرَّاتِ الْمَذْكُورَةِ (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، مِنْ نَفْخِهِ) : بَدَلُ اشْتِمَالٍ أَيْ: مِنْ كِبْرِهِ الْمُؤَدِّي إِلَى كُفْرِهِ (وَنَفْثِهِ) ، أَيْ: سِحْرِهِ (وَهَمْزِهِ) ، أَيْ: وَسْوَسَتِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: النَّفْخُ كِنَايَةٌ عَنِ الْكِبْرِ، كَانَ الشَّيْطَانُ يَنْفُخُ فِيهِ بِالْوَسْوَسَةِ فَيُعَظِّمُهُ فِي عَيْنِهِ وَيُحَقِّرُ النَّاسَ عِنْدَهُ، وَالنَّفْثُ عِبَارَةٌ عَنِ الشِّعْرِ؛ لِأَنَّهُ يَنْفُثُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ فِيهِ كَالرُّقْيَةِ اهـ، وَقِيلَ: " مِنْ نَفْخِهِ "، أَيْ: تَكَبُّرِهِ يَعْنِي: مِمَّا يَأْمُرُ النَّاسَ بِهِ مِنَ التَّكَبُّرِ، " وَنَفْثِهِ " مِمَّا يَأْمُرُ النَّاسَ بِإِنْشَاءِ الشِّعْرِ الْمَذْمُومِ مِمَّا فِيهِ هَجْرُ مُسْلِمٍ أَوْ كُفْرٌ أَوْ فِسْقٌ، " وَهَمْزِهِ "، أَيْ: مِنْ جَعْلِهِ أَحَدًا مَجْنُونًا بِنَخْسِهِ وَغَمْزِهِ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَقَالَ مِيرَكُ: وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ (وَابْنُ مَاجَهْ إِلَّا أَنَّهُ) ، أَيِ: ابْنُ مَاجَهْ لَمْ يَذْكُرْ: (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا) : وَلَا يَضُرُّ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةُ ثِقَةٍ لَا تُعَارِضُ الْمَزِيدَ عَلَيْهِ فَتُقْبَلَ (وَذَكَرَ فِي آخِرِهِ: " مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) : وَهِيَ زِيَادَةٌ يُعْمَلُ بِهَا كَذَلِكَ بِأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ بِلُحُوقِ الزِّيَادَاتِ أَوْ بِاعْتِبَارِ التَّارَاتِ، (وَقَالَ عُمَرُ) : قَالَ مِيرَكُ: صَوَابُهُ عَمْرٌو بِالْوَاوِ (نَفْخُهُ) : بِالرَّفْعِ عَلَى الْإِعْرَابِ وَبِالْجَرِّ عَلَى الْحِكَايَاتِ (الْكِبْرُ، وَنَفْثُهُ الشِّعْرُ) ، أَيِ: الْمَذْمُومُ لِخَبَرِ أَبِي دَاوُدَ: إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً، أَيْ: مَوَاعِظَ وَأَمْثَالًا، وَفِي الْبُخَارِيِّ: إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً، أَيْ: قَوْلًا صَادِقًا مُطَابِقًا لِلْحَقِّ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، «أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَنْشَدَ مِنَ الشَّرِيدِيِّ شِعْرَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، فَأَنْشَدَهُ مِائَةَ قَافِيَةٍ» وَرَدُّوا بِهَذَا عَلَى مَنْ كَرِهَ الشِّعْرَ مُطْلَقًا، وَاحْتِجَاجُهُ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: الشِّعْرُ مَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ، وَالْخَبَرِ: إِنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا هَبَطَ إِلَى الْأَرْضِ قَالَ: رَبِّ اجْعَلْ لِي قُرْآنًا، قَالَ: قُرْآنُكَ الشِّعْرُ، مَرْدُودٌ بِأَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ، وَبِفَرْضِ صِحَّتِهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِفْرَاطِ فِيهِ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ تُحْمَلُ اللَّامُ عَلَى الْعَهْدِ وَهُوَ الشِّعْرُ الْمَذْمُومُ، أَوْ عَلَى الْجِنْسِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَحْمُودُ جَمْعًا بَيْنَ الْوَارِدِ وَالْمَوْرُودِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (وَهَمْزُهُ الْمُوتَةُ) : بِالضَّمِّ وَفَتْحِ التَّاءِ، نَوْعٌ مِنَ الْجُنُونِ وَالصَّرَعِ يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ، فَإِذَا أَفَاقَ عَادَ عَلَيْهِ كَمَالُ عَقْلِهِ كَالنَّائِمِ وَالسَّكْرَانِ قَالَ الطِّيبِيُّ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْجُنُونُ سَمَّاهُ هَمْزًا؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ مِنَ الْهَمْزِ وَالنَّخْسِ، وَكُلُّ شَيْءٍ دَفَعْتَهُ فَقَدْ هَمَزْتَهُ، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنْ كَانَ هَذَا التَّفْسِيرُ مِنْ مَتْنِ الْحَدِيثِ، فَلَا مَعْدِلَ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ فَالْأَنْسَبُ أَنْ يُرَادَ بِالنَّفْثِ السِّحْرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ} [الفلق: ٤] وَأَنْ يُرَادَ بِالْهَمْزِ الْوَسْوَسَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} [المؤمنون: ٩٧] وَهِيَ خَطَرَاتُهُمْ، فَإِنَّهُمْ يُغْرُونَ النَّاسَ عَلَى الْمَعَاصِي كَمَا تُهْمَزُ الرَّكْضَةُ وَالدَّوَابُّ بِالْمِهْمَازِ اهـ.
وَفِيهِ نَظَرٌ، إِذِ السِّحْرُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَوْلٍ، وَإِنْ وُجِدَ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا شَاهِدَ لَهُ فِي الْآيَةِ لِابْنِ حَجَرٍ، وَهُوَ ظُلْمٌ فِي حَقِّ الطِّيبِيِّ، فَإِنَّهُ يَكْفِيهِ أَنَّ النَّفْثَ جَاءَ بِمَعْنَى السِّحْرِ فِي الْآيَةِ، فَهُوَ أَوْلَى بِالْمُرَادِ مِنَ الْقَوْلِ بِالشِّعْرِ، فَإِنَّهُ مَا جَاءَ مُطْلَقًا بِمَعْنَى الشِّعْرِ لَا فِي الْآيَةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا، وَلَمْ يَدَّعِ الطِّيبِيُّ أَنَّ السِّحْرَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالنَّفْثِ لِيَرُدَّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ نَظَرِهِ، هَذَا وَأَصْلُ النَّفْثِ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَكُونَ بِالْفَمِ شَبِيهَ النَّفْخِ، وَهُوَ أَقَلُّ مِنَ التَّفْلِ، وَهَذَا بِمَعْنَى السِّحْرِ أَظْهَرُ، وَأَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ الْقَامُوسِ: وَنَفْثُ الشَّيْطَانِ الشِّعْرُ، فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ تَفْسِيرِ الصَّحَابِيِّ؛ وَلِذَا قَالَ فِي النِّهَايَةِ: فُسِّرَ النَّفْثُ فِي الْحَدِيثِ بِالشِّعْرِ؛ لِأَنَّهُ يُنْفَثُ مِنَ الْفَمِ اهـ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هَذَا أَيْضًا يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى السِّحْرِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ بِسِحْرِهِ يَلْقَى الشَّاعِرَ فِي شِعْرِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ إِسْنَادَ الشِّعْرِ إِلَى الشَّيْطَانِ مَجَازِيٌّ بِخِلَافِ إِسْنَادِ السِّحْرِ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://www.shamela.app/page/contribute