عَلَيْك مِنْ الدَّيْنِ" كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا وَفَارَقَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ الْعَتَاقَ وَالطَّلَاقَ فِي جَوَازِ تَعَلُّقِهِمَا عَلَى الْأَخْطَارِ، لِأَنَّ لَهُمَا أَصْلًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَجَازَ الْكِتَابَةَ بِقَوْلِهِ: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} [النور: ٣٣] وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: "كَاتَبْتُك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنْ أَدَّيْت فَأَنْتَ حُرٌّ، وَإِنْ عَجَزْت فَأَنْتَ رَقِيقٌ" وَذَلِكَ عِتْقٌ مُعَلَّقٌ عَلَى خَطَرٍ وَعَلَى مَجِيء حَالٍ مُسْتَقْبَلَةٍ. وَقَالَ فِي شَأْنِ الطَّلَاقِ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: ١] وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ إيقَاعِهِ فِي الْحَالِ وَبَيْنَ إضَافَتِهِ إلَى وَقْتِ السُّنَّةِ. وَلَمَّا كَانَ إيجَابُ هَذَا الْعَقْدِ أَعْنِي الْعِتْقَ عَلَى مَالٍ، وَالْخُلْعُ بِمَالٍ مَشْرُوطٌ لِلزَّوْجِ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ فِيمَا أَوْجَبَهُ قَبْلَ قَبُولِ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ، صَارَ ذَلِكَ عِتْقًا مُعَلَّقًا عَلَى شَرْطٍ بِمَنْزِلَةِ شُرُوطِ الْأَيْمَانِ الَّتِي لَا سَبِيلَ إلَى الرُّجُوعِ فِيهَا. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَعَلُّقِهِمَا عَلَى شُرُوطٍ وَأَوْقَاتٍ مُسْتَقْبَلَةٍ. وَالْمَعْنَى فِي هَذَيْنِ أَنَّهُمَا لَا يَلْحَقُهُمَا الْفَسْخُ بَعْدَ وُقُوعِهِمَا، وَسَائِرُ الْعُقُودِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنْ عُقُودِ التَّمْلِيكَاتِ يَلْحَقُهَا الْفَسْخُ بَعْدَ وُقُوعِهَا، فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ تَعَلُّقُهَا عَلَى الْأَخْطَارِ. وَنَظِيرُ دَلَالَةِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ" عَلَى مَا ذَكَرْنَا، مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُنَابَذَةِ وَالْمُلَامَسَةِ وَعَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ" وَهَذِهِ بِيَاعَاتٌ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَعَامَلُونَ بِهَا، فَكَانَ أَحَدُهُمْ إذَا لَمَسَ السِّلْعَةَ أَوْ أَلْقَى الثَّوْبَ إلَى صَاحِبِهِ أَوْ وَضَعَ عَلَيْهِ حَصَاةً وَجَبَ الْبَيْعُ، فَكَانَ وُقُوعُ الْمِلْكِ مُتَعَلِّقًا بِغَيْرِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بَلْ بِفِعْلٍ آخَرَ يَفْعَلُهُ أَحَدُهُمَا، فَأَبْطَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عُقُودَ التَّمْلِيكَاتِ لَا تَتَعَلَّقُ عَلَى الْأَخْطَارِ. وَإِنَّمَا جَعَلَ أَصْحَابُنَا الرَّهْنَ مَضْمُونًا بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَقْبُوضًا لِلِاسْتِيفَاءِ وَجَبَ اعْتِبَارُ مَا يَصِحُّ الِاسْتِيفَاءُ بِهِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُسْتَوْفَى مِنْ عِدَّةٍ أَقَلَّ مِنْهَا وَلَا أَكْثَرَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا فِي الْفَضْلِ وَضَامِنًا لِمَا نَقَصَ الرَّهْنُ عَنْ الدَّيْنِ. وَمَنْ جَعَلَهُ بِمَا فِيهِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ شَبَّهَهُ بِالْمَبِيعِ إذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ أَنَّهُ يَهْلَكُ بِالثَّمَنِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ; وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مَحْبُوسٌ بِالدَّيْنِ، وَلَيْسَ هَذَا كَذَلِكَ عِنْدَنَا; لِأَنَّ الْمَبِيعَ إنَّمَا كَانَ مَضْمُونًا بِالثَّمَنِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ لِأَنَّ الْبَيْعَ يُنْتَقَضُ بِهَلَاكِهِ فَسَقَطَ الثَّمَنُ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ بَقَاءُ الثَّمَنِ مَعَ انْتِقَاضِ الْبَيْعِ. وَأَمَّا الرَّهْنُ فَإِنَّهُ يَتِمُّ بِهَلَاكِهِ وَلَا يُنْتَقَضُ وَإِنَّمَا يَكُونُ مُسْتَوْفِيًا لِلدَّيْنِ بِهِ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُ ضَمَانِهِ بِمَا وَصَفْنَا.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْفَضْلُ عَنْ الدَّيْنِ أَمَانَةً، فَمَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ أَمَانَةً وَأَنْ لَا يَكُونَ حَبْسُهُ بِالدَّيْنِ لِلِاسْتِيفَاءِ مُوجِبًا لِضَمَانِهِ؟ لِوُجُودِنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي الزِّيَادَةِ مَعَ عَدَمِ الضَّمَانِ فِيهَا. وَكَذَلِكَ وَلَدُ الْمَرْهُونَةِ الْمَوْلُودُ بَعْدَ الرَّهْنِ يَكُونُ مَحْبُوسًا فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ مَعَ الْأُمِّ، وَلَوْ هَلَكَ هَلَكَ بِغَيْرِ شَيْءٍ فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ كَوْنُهُ مَحْبُوسًا فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ عِلَّةً لِكَوْنِهِ مَضْمُونًا. قِيلَ لَهُ: إنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الدَّيْنِ مِنْ مِقْدَارِ قِيمَةِ الرَّهْنِ وَوَلَدِ الْمَرْهُونَةِ كِلَاهُمَا تَابِعٌ لِلْأَصْلِ غَيْرُ جَائِزٍ إفْرَادُهُمَا دُونَ الْأَصْلِ إذَا أُدْخِلَا فِي الْعَقْدِ عَلَى وَجْهِ التبع،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://www.shamela.app/page/contribute