للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَنْ يَصِحَّ مَعَ وُجُودِ مَا يُبْطِلُهُ; أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَتَى اسْتَحَقَّ ذَلِكَ الْقَبْضَ بِالْمُهَايَأَةِ وَعَادَ إلَى يَدِ الشَّرِيكِ فَقَدْ بَطَلَ مَعْنَى الْوَثِيقَةِ وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الرَّهْنِ الَّذِي لَمْ يُقْبَضْ؟ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ عَارِيَّةِ الرَّهْنِ الْمَقْبُوضِ إذَا أَعَادَهُ الرَّاهِنُ فَلَا يَبْطُلُ الرَّهْنُ، وَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ إلَى يَدِهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ هَذَا الْقَبْضَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ، وَلِلْمُرْتَهِنِ أَخْذُهُ مِنْهُ مَتَى شَاءَ; وَإِنَّمَا هُوَ ابْتَدَأَ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَبْضُ مُسْتَحَقًّا بِمَعْنًى يُقَارِنُ الْعَقْدَ. وَلَيْسَ هَذَا أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ هِبَةِ الْمُشَاعِ فِيمَا لَا يُقْسَمُ فَيَجُوزُ عِنْدَنَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ شَرْطِ الْهِبَةِ الْقَبْضُ كَالرَّهْنِ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْهِبَةِ مِنْ الْقَبْضِ لِصِحَّةِ الْمِلْكِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ بَقَاءِ الْمِلْكِ اسْتِصْحَابُ الْيَدِ، فَلَمَّا صَحَّ الْقَبْضُ بَدِيًّا لَمْ يَكُنْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْيَدِ تَأْثِيرٌ فِي رَفْعِ الْمِلْكِ، وَلَمَّا كَانَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمُرْتَهِنِ رَفْعُ مَعْنَى الْوَثِيقَةِ لَمْ يَصِحَّ مَعَ وُجُودِ مَا يُبْطِلُهُ وَيُنَافِيهِ.

فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا أَجَزْت رَهْنَهُ مِنْ شَرِيكِهِ; إذْ لَيْسَ فِيهِ اسْتِحْقَاقُ يَدِهِ فِي الثَّانِي لِأَنَّ يَدَهُ تَكُونُ بَاقِيَةً عَلَيْهِ إلَى وَقْتِ الْفِكَاكِ. قِيلَ لَهُ: لِأَنَّ لِلشَّرِيكِ اسْتِخْدَامَهُ إنْ كَانَ عَبْدًا بِالْمُهَايَأَةِ بِحَقِّ مِلْكِهِ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَدُهُ فِيهِ يَدَ رَهْنٍ فَقَدْ اُسْتُحِقَّتْ يَدُ الرَّهْنِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الشَّرِيكِ وَبَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ لِوُجُودِ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِاسْتِحْقَاقِ قَبْضِ الرهن مقارنا للعقد.

وَاخْتُلِفَ فِي رَهْنِ الدَّيْنِ، فَقَالَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ: "لَا يَصِحُّ رَهْنُ الدَّيْنِ بِحَالٍ". وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ: إذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَبِعْته بَيْعًا وَارْتَهَنْت مِنْهُ الدَّيْنَ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ أَنْ يَرْتَهِنَ دَيْنًا عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ حَائِزٌ لِمَا عَلَيْهِ قَالَ: "وَيَجُوزُ فِي قَوْلِ مَالِكٍ أَنْ يَرْهَنَ الرَّجُلُ الدَّيْنَ الَّذِي يَكُونُ لَهُ عَلَى الرَّجُلِ وَيَبْتَاعَ مِنْ رَجُلٍ بَيْعًا وَيُرْهَنَ مِنْهُ الدَّيْنَ الَّذِي يَكُونُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ وَيَقْبِضَ ذَلِكَ الْحَقَّ لَهُ وَيَشْهَدَ لَهُ". وَهَذَا قَوْلٌ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ سِوَاهُ; وَهُوَ فَاسِدٌ أَيْضًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} وَقَبْضُ الدَّيْنِ لَا يَصِحُّ مَا دَامَ دَيْنًا لَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ وَلَا إذَا كَانَ عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ هُوَ حَقٌّ لَا يَصِحُّ فِيهِ قَبْضٌ وَإِنَّمَا يَتَأَتَّى الْقَبْضُ فِي الْأَعْيَانِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو ذَلِكَ الدَّيْنُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا عَلَى حُكْمِ الضَّمَانِ الْأَوَّلِ أَوْ مُنْتَقِلًا إلَى ضَمَانِ الرَّهْنِ، فَإِنْ انْتَقَلَ إلَى ضَمَانِ الرَّهْنِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يَبْرَأَ مِنْ الْفَضْلِ إذَا كَانَ الدَّيْنُ الَّذِي بِهِ الرَّهْنُ أَقَلَّ مِنْ الرَّهْنِ، وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى حُكْمِ الضَّمَانِ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ هُوَ رَهْنًا لِبَقَائِهِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ. وَالدَّيْنُ الَّذِي عَلَى الْغَيْرِ أَبْعَدُ فِي الْجَوَازِ لِعَدَمِ الْحِيَازَةِ فِيهِ وَالْقَبْضِ بِحَالٍ.

وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الرَّهْنِ إذَا وُضِعَ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وَالثَّوْرِيُّ: "يَصِحُّ الرَّهْنُ إذَا جَعَلَاهُ عَلَى يَدَيْ عدل ويكون

<<  <  ج: ص:  >  >>