الِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى الرَّبَائِبِ دُونَ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ; لِأَنَّهُ يَلِيهِنَّ، فَثَبَتَ بِمَا وَصَفْنَا صِحَّةُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاقْتِصَارِ بِحُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى مَا يَلِيهِ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ وَأَيْضًا فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إذَا كَانَ فِي مَعْنَى التَّخْصِيصِ وَكَانَتْ الْجُمْلَةُ الدَّاخِلُ عَلَيْهَا الِاسْتِثْنَاءُ عُمُومًا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْعُمُومِ ثَابِتًا وَأَنْ لَا نَرْفَعَهُ بِاسْتِثْنَاءٍ قَدْ ثَبَتَ حُكْمُهُ فِيمَا يَلِيهِ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى رُجُوعِهِ إلَيْهَا.
فَإِنْ قِيلَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} [المائدة: ٣٣] إلَى قَوْلِهِ: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: ٣٤] فَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعًا إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ لِكَوْنِهِ مَعْطُوفًا بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، وَقَالَ تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: ٤٣] ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: ٤٣] فَكَانَ التَّيَمُّمُ لِمَنْ لَزِمَهُ الِاغْتِسَالُ كَلُزُومِهِ لِمَنْ لَزِمَهُ الْوُضُوءُ بِالْحَدَثِ، فَكَذَلِكَ حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ الدَّاخِلُ عَلَى كَلَامٍ مَعْطُوفٍ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ يَجِبُ أَنْ يَنْتَظِمَ الْجَمِيعُ وَيَرْجِعَ إلَيْهِ. قِيلَ لَهُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي اللُّغَةِ رُجُوعُهُ إلَى مَا يَلِيهِ وَلَا يَرْجِعُ إلَى مَا تَقَدَّمَهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ، وَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ فِيمَا ذُكِرَ عَلَى رُجُوعِهِ إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ وَلَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ عَلَى رُجُوعِهِ إلَى الْجَمِيعِ الْمَذْكُورِ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا كُنَّا قَدْ وَجَدْنَا الِاسْتِثْنَاءَ تَارَةً يَرْجِعُ إلَى بَعْضِ الْمَذْكُورِ وَتَارَةً إلَى جَمِيعِهِ وَكَانَ ذَلِكَ مُتَعَالِمًا مَشْهُورًا فِي اللُّغَةِ، فَمَا الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الِاقْتِصَارِ بِهِ عَلَى بَعْضِ الْجُمْلَةِ وَهُوَ الَّذِي يَلِيهِ دُونَ رُجُوعِهِ إلَى الْجَمِيعِ؟ قِيلَ لَهُ: لَوْ سَلَّمْنَا لَك مَا ادَّعَيْت مِنْ جَوَازِ رُجُوعِهِ إلَى الْجَمِيعِ لَكَانَ سَبِيلُهُ أَنْ يَقِفَ مَوْقِفَ الِاحْتِمَالِ فِي رُجُوعِهِ إلَى مَا يَلِيهِ أَوْ إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَكَانَ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ عُمُومًا مُقْتَضِيًا لِلْحُكْمِ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ لَمْ يَجُزْ رَدُّ الِاسْتِثْنَاءِ إلَيْهِ بِالِاحْتِمَالِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالِاحْتِمَالِ، وَوَجَبَ اسْتِعْمَالُ حُكْمِهِ فِي الْمُتَيَقَّنِ وَهُوَ مَا يَلِيهِ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا أَنْكَرْت أَنْ لَا يَكُونَ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ عُمُومًا مَعَ دُخُولِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى آخِرِ الْكَلَامِ بَلْ يَصِيرُ فِي حَيِّزِ الِاحْتِمَالِ وَيَبْطُلُ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِيهِ؟ إذْ لَيْسَ اعْتِبَارُ عُمُومِهِ بِأَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ عُمُومِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي عَوْدِهِ إلَى الْجَمِيعِ، وَإِذَا بَطَلَ فِيهِ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ وَقَفَ مَوْقِفَ الِاحْتِمَالِ فِي إيجَابِ حُكْمِهِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ عُمُومِ اللَّفْظِ فِيهِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّ صِيغَةَ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ صِيغَةُ الْعُمُومِ لَا تَدَافُعَ بَيْنَنَا فِيهِ، وَلَيْسَ لِلِاسْتِثْنَاءِ صِيغَةُ عُمُومٍ يَقْتَضِي رَفْعَ الْجَمِيعِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الصِّيغَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُمُومِ مُسْتَعْمَلًا فِيهِ وَأَنْ لَا نُزِيلَهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://www.shamela.app/page/contribute