للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ تَعَالَى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عَلَى النَّاسِ إذَا سَمِعُوا مَنْ يَقْذِفُ آخَرَ أَنْ يَحْكُمُوا بِكَذِبِهِ وَرَدِّ شَهَادَتِهِ إلَى أَنْ يَأْتِيَ بِالشُّهَدَاءِ. قِيلَ لَهُ: مَعْلُومٌ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَقَذَفَتِهَا; لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} إلى قوله: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} وَقَدْ كَانَتْ بَرِيئَةَ السَّاحَةِ غَيْرَ مُتَّهَمَةٍ بِذَلِكَ، وَقَاذِفُوهَا أَيْضًا لَمْ يَقْذِفُوهَا بِرُؤْيَةٍ مِنْهُمْ لِذَلِكَ وَإِنَّمَا قَذَفُوهَا ظَنًّا مِنْهُمْ وَحُسْبَانًا حِينَ تَخَلَّفَتْ. وَلَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ أَنَّهُمْ أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ، وَمَنْ أَخْبَرَ عَنْ ظَنٍّ فِي مِثْلِهِ فَعَلَيْنَا إكْذَابُهُ وَالنَّكِيرُ عَلَيْهِ. وَأَيْضًا لَمَّا قَالَ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} فَحَكَمَ بِكَذِبِهِمْ عِنْدَ عَجْزِهِمْ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ: {وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} إيجَابُ الْحُكْمِ بِكَذِبِهِمْ بِنَفْسِ الْقَذْفِ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ: وَقَالُوا هَذَا إفْكٌ مُبِينٌ; إذْ سَمِعُوهُ وَلَمْ يَأْتِ الْقَاذِفُ بِالشُّهُودِ. وَالشَّافِعِيُّ يَزْعُمُ أَنَّ شُهُودَ الْقَذْفِ إذَا جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ، فَإِنْ كَانَ الْقَذْفُ قَدْ أَبْطَلَ شَهَادَتَهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَقْبَلَهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ شَهِدَ مَعَهُ ثَلَاثَةٌ; لِأَنَّهُ قَدْ فُسِّقَ بِقَذْفِهِ فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِتَكْذِيبِهِ، وَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ إذَا جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ مَا يَلْزَمُهُ أَنْ لَا تَبْطُلَ شَهَادَتُهُمْ بِنَفْسِ الْقَذْفِ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا رَوَى الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ" قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ"، فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَقَاءِ عَدَالَةِ الْقَاذِفِ مَا لَمْ يُحَدَّ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا حَدِيثُ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ لَمَّا قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُجْلَدُ هِلَالٌ وَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ" فَأَخْبَرَ أَنَّ بُطْلَانَ شَهَادَتِهِ مُعَلَّقٌ بِوُقُوعِ الْجَلْدِ بِهِ، وَدَلَّ بِذَلِكَ أَنَّ الْقَذْفَ لَمْ يُبْطِلْ شَهَادَتَهُ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي شَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إذَا تَابَ وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ فِي غَيْرِ الْقَذْفِ إذَا تَابَ". وَقَالَ مَالِكٌ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ إذَا تَابَ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَحْدُودٍ فِي الْإِسْلَامِ".

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رَوَى الْحَجَّاجُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ وَعُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ثم استثنى فقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} فَتَابَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْفِسْقِ، وَأَمَّا الشَّهَادَةُ فَلَا تجوز. حدثنا

<<  <  ج: ص:  >  >>