للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَشْتَمِلُ عَلَى أَحْكَامٍ: مِنْهَا أَنَّهُ رَدَّدَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ لَمَّا أَقَرَّ عِنْدَهُ الرَّابِعَةَ سَأَلَ عَنْ صِحَّةِ عَقْلِهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلْ بِهِ جُنَّةٌ؟ " فَقَالُوا: لَا، وَأَنَّهُ اسْتَنْكَهَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: "لَعَلَّك لَمَسْت لَعَلَّك قَبَّلْت؟ " فَلَمَّا أَبَى إلَّا التَّصْمِيمَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِصَرِيحِ الزِّنَا سَأَلَ عَنْ إحْصَانِهِ، ثُمَّ لَمَّا هَرَبَ حِينَ أَدْرَكَتْهُ الْحِجَارَةُ قَالَ: "هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ" وَفِي تَرْدِيدِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ الْمَسْأَلَةُ عَنْ عَقْلِهِ بَعْدَ الرَّابِعَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ إلَّا بَعْدَ إقْرَارِهِ أَرْبَعًا; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "تَعَافُوا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ"، فَلَوْ كَانَ الْحَدُّ وَاجِبًا بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً لَسَأَلَ عَنْهُ فِي أَوَّلِ إقْرَارِهِ، وَمَسْأَلَتُهُ جِيرَانَهُ وَأَهْلَهُ عَنْ عَقْلِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ الِاسْتِثْبَاتَ وَالِاحْتِيَاطَ فِي الْحَدِّ وَمَسْأَلَتُهُ عَنْ الزِّنَا كَيْفَ هُوَ وَمَا هُوَ. وَقَوْلُهُ: "لَعَلَّك لَمَسْت لَعَلَّك قَبَّلْت" يُفِيدُ حُكْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى إقْرَارِهِ بِالزِّنَا دُونَ اسْتِثْبَاتِهِ فِي مَعْنَى الزِّنَا حَتَّى يُبَيِّنَهُ بِصِفَةٍ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ أَنَّهُ زِنًا، وَقَوْلُهُ: "لَعَلَّك لَمَسْت لَعَلَّك قَبَّلْت" تَلْقِينٌ لَهُ الرُّجُوعَ عَنْ الزِّنَا وَأَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ اللَّمْسَ، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِلسَّارِقِ: "مَا إخَالُهُ سَرَقَ"، وَنَظِيرُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ جِيءَ بِامْرَأَةٍ حُبْلَى بِالْمَوْسِمِ وَهِيَ تَبْكِي، فَقَالُوا: زَنَتْ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا يُبْكِيك؟ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ رُبَّمَا اُسْتُكْرِهَتْ عَلَى نَفْسِهَا يُلَقِّنُهَا ذَلِكَ، فَأَخْبَرَتْ أَنَّ رَجُلًا رَكِبَهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ، فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ قُتِلَتْ هَذِهِ لَخَشِيت أَنْ تَدْخُلَ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَخْشَبَيْنِ النَّارُ، فَخَلَّى سَبِيلَهَا. وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ لِشُرَاحَةَ حِينَ أَقَرَّتْ عِنْدَهُ بِالزِّنَا: لَعَلَّك عَصِيَتْ نَفْسُك؟ قَالَتْ: أَتَيْت طَائِعَةً غَيْرَ مُكْرَهَةٍ، فَرَجَمَهَا. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ" يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ رُجُوعِهِ عَنْ إقْرَارِهِ; لِأَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ مِمَّا بَذَلَ نَفْسَهُ لَهُ بَدِيًّا قَالَ: "هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ"، وَلَمَّا لَمْ يَجْلِدْهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الرَّجْمَ وَالْجَلْدَ لَا يَجْتَمِعَانِ.

قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} رَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "الطَّائِفَةُ الرَّجُلُ إلَى الْأَلْفِ" وَقَرَأَ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: ٩] وَقَالَ عَطَاءٌ: "رَجُلَانِ فَصَاعِدًا". وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو بُرْدَةَ: "الطَّائِفَةُ عَشَرَةٌ". وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ فِي قَوْلِهِ: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ} [التوبة: ٦٦] قَالَ: كَانَ رَجُلًا. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ} "ثَلَاثَةٌ فَصَاعِدًا". وَقَالَ قَتَادَةُ: "لِيَكُونَ عِظَةً وَعِبْرَةً لَهُمْ". وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ: "أَرْبَعَةٌ; لِأَنَّ الشُّهُودَ أَرْبَعَةٌ".

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يُشْبِهُ أَنَّ الْمَعْنَى فِي حُضُورِ الطَّائِفَةِ مَا قَالَهُ قَتَادَةُ أَنَّهُ عِظَةٌ وَعِبْرَةٌ لَهُمْ، فَيَكُونُ زَجْرًا لَهُ عَنْ الْعَوْدِ إلَى مِثْلِهِ وَرَدْعًا لِغَيْرِهِ عَنْ إتْيَانِ مِثْلِهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ الطَّائِفَةُ جَمَاعَةً يَسْتَفِيضُ الْخَبَرُ بِهَا وَيَشِيعُ فَيَرْتَدِعُ النَّاسُ عَنْ مِثْلِهِ; لِأَنَّ الْحُدُودَ مَوْضُوعَةٌ لِلزَّجْرِ وَالرَّدْعِ، وَبِاَللَّهِ التوفيق.

<<  <  ج: ص:  >  >>