تَحْرِيمِهَا، وَعَلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْمُسْلِمُ عَنْهُمَا وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ مِنْ أَبْلَغِ مَا يَنْهَى عَنْهُ كَأَنَّهُ قِيلَ قَدْ تُلِيَ عَلَيْكُمْ مَا فِيهِمَا مِنَ الْمَفَاسِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ الَّتِي تُوجِبُ الِانْتِهَاءَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ أَمْ بَاقُونَ عَلَى حَالِكُمْ مَعَ عِلْمِكُمْ بِتِلْكَ الْمَفَاسِدِ. وَجَعْلُ الْجُمْلَةِ اسْمِيَّةً وَالْمُوَاجَهَةُ لَهُمْ بِأَنْتُمْ أَبْلَغُ مِنْ جَعْلِهَا فِعْلِيَّةً. وَقِيلَ هُوَ اسْتِفْهَامٌ يَضْمَنُ مَعْنَى الْأَمْرِ أَيْ فَانْتَهُوا وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ انْتَهَيْنَا يَا رَبِّ. وَذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ أَنَّ جَمَاعَةً كَانُوا يَشْرَبُونَهَا بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَيَقُولُونَ إِنَّمَا قَالَ تَعَالَى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ انْتَهَيْنَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَمْ نَنْتَهِ فَلَمَّا نَزَلَ قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ «١» حُرِّمَتْ لِأَنَّ الْإِثْمَ اسْمٌ لِلْخَمْرِ وَلَا يَصِحُّ هَذَا، وَقَالَ التَّبْرِيزِيُّ هَذَا اسْتِفْهَامُ ذَمٍّ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ أَيِ انْتَهُوا مَعْنَاهُ اتْرُكُوا وَانْتَقِلُوا عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمُوَظَّفِ عَلَيْكُمُ انْتَهَى. وَوَجْهُ مَا ذُكِرَ مِنَ الذَّمِّ أَنَّهُ نَبَّهَ عَلَى مَفَاسِدَ تَتَوَلَّدُ مِنَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ يَقْضِي الْعَقْلُ بِتَرْكِهِمَا مِنْ أَجْلِهَا لَوْ لَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِذَلِكَ فَكَيْفَ وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالتَّرْكِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْبَقَرَةِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَشْرَبُوا الْخَمْرَ صَوْنًا لِعُقُولِهِمْ عَمَّا يُفْسِدُهَا وَكَذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَ نُزُولِ تَحْرِيمِهَا.
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا هَذَا أَمْرٌ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَاعَةِ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ فِي امْتِثَالِ مَا أُمِرَ بِهِ وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ وَأَمَرَ بِالْحَذَرِ مِنْ عَاقِبَةِ الْمَعْصِيَةِ، وَنَاسَبَ الْعَطْفُ فِي وَأَطِيعُوا عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ إِذْ تَضَمَّنَ هَذَا مَعْنَى الْأَمْرِ وَهُوَ قَوْلُهُ فَانْتَهُوا. وَقِيلَ الْأَمْرُ بِالطَّاعَةِ هَذَا مَخْصُوصٌ أَيْ أَطِيعُوا فِيمَا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنِ اجْتِنَابِ مَا أُمِرْتُمْ بِاجْتِنَابِهِ وَاحْذَرُوا مَا عَلَيْكُمْ فِي مُخَالَفَةِ هَذَا الْأَمْرِ، وَكُرِّرَ وَأَطِيعُوا عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ وَالْأَحْسَنُ أَنْ لَا يُقَيَّدَ الْأَمْرُ هُنَا بَلْ أُمِرُوا أَنْ يَكُونُوا مُطِيعِينَ دَائِمًا حَذِرِينَ خَاشِينَ لِأَنَّ الْحَذَرَ مَدْعَاةٌ إِلَى عَمَلِ الْحَسَنَاتِ وَاتِّقَاءِ السَّيِّئَاتِ.
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أَيْ فَإِنْ أَعْرَضْتُمْ فَلَيْسَ عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا أَنْ يُبَلِّغَ أَحْكَامَ اللَّهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ خَلْقُ الطَّاعَةِ فِيكُمْ، وَلَا يَلْحَقُهُ مِنْ تَوَلِّيكُمْ شَيْءٌ بَلْ ذَلِكَ لَاحِقٌ بِكُمْ وَفِي هَذَا مِنَ الْوَعِيدِ الْبَالِغِ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ إِذْ تَضَمَّنَ أَنَّ عِقَابَكُمْ إِنَّمَا يَتَوَلَّاهُ الْمُرْسِلُ لَا الرَّسُولُ وَمَا كُلِّفَ الرَّسُولُ مِنْ أَمْرِكُمْ غَيْرَ تَبْلِيغِكُمْ، وَوَصْفُ الْبَلَاغِ بِالْمُبِينِ إِمَّا لِأَنَّهُ بَيِّنٌ فِي نَفْسِهِ وَاضِحٌ جَلِيٌّ وَإِمَّا لِأَنَّهُ مُبَيِّنٌ لَكُمْ أَحْكَامَ اللَّهِ تَعَالَى وَتَكَالِيفَهُ بِحَيْثُ لَا يعتريها
(١) سورة الأعراف: ٧/ ٣٣.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://www.shamela.app/page/contribute