وَهَذَا الْحُكْمُ مِنْ أَعْدَلِ الْأَحْكَامِ وَأَوْضَحِهَا وَأَظْهَرِهَا حِكْمَةً، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِيَعْبُدُوهُ وَيُوَحِّدُوهُ، وَيَمْتَثِلُوا أَوَامَرَهُ وَيَجْتَنِبُوا نَوَاهِيَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [٥١ \ ٥٦، ٥٧] . وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً.
كَمَا قَالَ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [١٤ \ ٣٤] ، وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فِي «سُورَةِ النَّحْلِ» : وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [١٦ \ ١٨] ، وَجَعَلَ لَهُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لِيَشْكُرُوهُ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [١٦ \ ٧٨] فَتَمَرَّدَ الْكُفَّارُ عَلَى رَبِّهِمْ وَطَغَوْا وَعَتَوْا، وَأَعْلَنُوا الْحَرْبَ عَلَى رُسُلِهِ لِئَلَّا تَكُونَ كَلِمَتُهُ هِيَ الْعُلْيَا، وَاسْتَعْمَلُوا جَمِيعَ الْمَوَاهِبِ الَّتِي أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِهَا فِي مُحَارَبَتِهِ، وَارْتِكَابِ مَا يُسْخِطُهُ، وَمُعَادَاتِهِ وَمُعَادَاةِ أَوْلِيَائِهِ الْقَائِمِينَ بِأَمْرِهِ، وَهَذَا أَكْبَرُ جَرِيمَةٍ يَتَصَوَّرُهَا الْإِنْسَانُ.
فَعَاقَبَهُمُ الْحَكَمُ الْعَدْلُ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ جَلَّ وَعَلَا عُقُوبَةً شَدِيدَةً تُنَاسِبُ جَرِيمَتَهُمْ. فَسَلَبَهُمُ التَّصَرُّفَ، وَوَضَعَهُمْ مِنْ مَقَامِ الْإِنْسَانِيَّةِ إِلَى مَقَامٍ أَسْفَلَ مِنْهُ كَمَقَامِ الْحَيَوَانَاتِ، فَأَجَازَ بَيْعَهُمْ وَشِرَاءَهُمْ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَسْلُبْهُمْ حُقُوقَ الْإِنْسَانِيَّةِ سَلْبًا كُلِّيًّا. فَأَوْجَبَ عَلَى مَالِكِيهِمُ الرِّفْقَ وَالْإِحْسَانَ إِلَيْهِمْ، وَأَنْ يُطْعِمُوهُمْ مِمَّا يُطْعِمُونَ، وَيُكْسُوهُمْ مِمَّا يَلْبَسُونَ، وَلَا يُكَلِّفُوهُمْ مِنَ الْعَمَلِ مَا لَا يُطِيقُونَ، وَإِنْ كَلَّفُوهُمْ أَعَانُوهُمْ ; كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي السُّنَّةِ الْوَارِدَةِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْإِيصَاءِ عَلَيْهِمْ فِي الْقُرْآنِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى إِلَى قَوْلِهِ: وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [٤ \ ٣٦] كَمَا تَقَدَّمَ.
وَتَشَوَّفَ الشَّارِعُ تَشَوُّفًا شَدِيدًا لِلْحُرِّيَّةِ وَالْإِخْرَاجِ مِنَ الرِّقِّ، فَأَكْثَرَ أَسْبَابَ ذَلِكَ، كَمَا أَوْجَبَهُ فِي الْكَفَّارَاتِ مِنْ قَتْلٍ خَطَأٍ وَظِهَارٍ وَيَمِينٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَوْجَبَ سَرَايَةَ الْعِتْقِ، وَأَمَرَ بِالْكِتَابَةِ فِي قَوْلِهِ: فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [٢٤ \ ٣٣] ، وَرَغَّبَ فِي الْإِعْتَاقِ تَرْغِيبًا شَدِيدًا، وَلَوْ فَرَضْنَا - وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى - أَنَّ حُكُومَةً مِنْ هَذِهِ الْحُكُومَاتِ الَّتِي تُنْكِرُ الْمِلْكَ بِالرِّقِّ، وَتُشَنِّعُ فِي ذَلِكَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ قَامَ عَلَيْهَا رَجُلٌ مِنْ رَعَايَاهَا كَانَتْ تُغْدِقُ عَلَيْهِ النِّعَمَ، وَتُسْدِي إِلَيْهِ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ، وَدَبَّرَ عَلَيْهَا ثَوْرَةً
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://www.shamela.app/page/contribute