دائمة ولا تتعين الدائمة الصادقة إلا إذا كانت المطلقة كاذبة قطعا لكن كذب المطلقة هاهنا أول البحث وعين المتنازع فيه فلا يجوز أن يبنى كون لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ دائمة على كذب هذه المطلقة أعني الله تعالى يدركه الأبصار مرادا بها أبصار المؤمنين في الجنة والموقف لأنه مصادرة على المطلوب المستلزم للدور، وأما الثاني فلأن الجملة ثبوتية كانت أو منفية تستعمل بحسب المقامات تارة في الإطلاق وتارة في الدوام وليس يجب في اللغة أنا إذا وجدنا جملة مثبتة استعملت في مقام ما في معنى الإطلاق أن تكون الجملة المقابلة لها مستعملة في معنى الدوام البتة بل يختلف باختلاف المقامات وقصد المستعملين لها وهو ظاهر جدا، وأما الثالث فلأن المطلقة المذكورة بالمعنى السابق عين المتنازع فيه بيننا وبين المعتزلة شرعا فنحن نقول: إنها صادقة شرعا ونحتج عليها بالعقل والنقل من الكتاب والسنة، وكل ما كان كذلك لزم أن لا يكون لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ دائمة دفعا للتناقض فتكون إما مطلقة عامة أو وقتية مطلقة، وعلى التقديرين لا تناقض لانتفاء اتحاد الزمان فيصدق الله تعالى تدركه الأبصار أي أبصار المؤمنين يوم القيامة مثلا أو وقت تجليه في نوره الذي لا يذهب بالأبصار الله تعالى لا تدركه الأبصار أي في الدنيا بالقيد الذي أشير إليه سابقا أو وقت تجليه بنوره الذي يذهب بالأبصار وهو النور الشعشعاني المشار إليه
في الحديث الوارد في صحيح مسلم وغيره «لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره» .
وإلى هذا التقييد يشير ثاني تفسيري ابن عباس المتقدم أولهما.
فقد روي أنه قال:«رأى محمد صلّى الله عليه وسلّم ربه فقال له عكرمة: أليس الله تعالى يقول: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ فقال:
لا أم لك ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء» الحديث.
وبإثبات هذين النورين يجمع بين جوابيه عليه الصلاة والسلام لأبي ذر حيث سأله هل رأيت ربك؟ فقال في أحد جوابيه
«نور أنى أراه»
وفي الجواب
«رأيت نورا»
فيقال: النور الذي نفى رؤيته في الاستفهام الإنكاري المدلول عليه بأنى هو نوره أعني النور الذي يذهب بالأبصار ولا يقوم له بصر، والنور الذي أثبت رؤيته هو النور الذي لا يذهب بالأبصار.
وكذا يمكن حمل قول عائشة رضي الله تعالى عنهما من زعم أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم رأى ربه سبحانه فقد أعظم على الله عز وجل الفرية، واستشهادها لذلك بهذه الآية على هذا بأن يقال: أرادت من زعم أن محمدا عليه الصلاة والسلام رأى ربه سبحانه في نوره الذي هو نوره الذي يذهب بالأبصار فقد أعظم على الله عز وجل الفرية ويكون الاستشهاد بالآية على ما روي عن ابن عباس من ثاني تفسيريه، وحينئذ لا يتم للمعتزلة دعوى كون لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ دائمة إلا إذا كانت هذه المطلقة كاذبة شرعا وهو عين المتنازع فيه كما عرفت فلم يبق لهم على دعوى الدوام دليل أصلا.
وقد يقال أيضا: المراد نفي الرؤية وقت عدم إذن الله تعالى للأبصار بالإدراك، والدليل على صحة إرادة هذا القيد هو أن إرادة الأبصار فعل من أفعال العبيد وكسب من كسبهم وقد ثبت بغير ما دليل أن العباد لا يقدرون على شيء ما من المقدورات إلا بإذن الله تعالى ومشيئته وتمكينه فلا تدركه الأبصار إلا بإذنه وهو المطلوب.
ويؤيد هذا البيان ويشيد أركانه أن لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وقع بعد قوله سبحانه: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. ووجه التأييد أن الله تعالى أخبر بأنه على كل شيء وكيل أي متول لأموره، ومعلوم أن الأبصار من الأشياء وأن إدراكها من أمورها فهو سبحانه وتعالى متوليها ومتصرف فيها على حسب مشيئته فيفيض عليها الإدراك ويأذن لها إذا شاء كيف شاء وعلى الحد الذي شاء ويقبض عنها الإدراك قبضا كليا أو جزئيا في أي وقت شاء كيف شاء، ولا يخفى على هذا أنه غاية التمدح بالعزة والقهر والغلبة فإن من هو على كل شيء وكيل إذا لم تدركه الأبصار إلا بإذنه مع كونه يدرك الأبصار ولا تخفى عليه خافية كان ذلك غاية في عزته وقهره وكونه غالبا على أمره.