للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سبحانه لما كان فقط كما ينبىء عنه صيغة الماضي، وجوز أن يكون الاسم الجليل بدلا من اسم الإشارة ورَبُّكُمْ صفته وما بعده خبر، وأن يكون الاسم الجليل هو الخبر وما بعده إبدال منه، وأن يكون بدلا والبواقي أخبار، وأن يقدر لكل خبر من الأخبار الثلاثة مبتدأ، وأن يجعل الكل بمنزلة اسم واحد، وأن يكون خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بدلا من الضمير، وجوز غير ذلك. وقوله تعالى: فَاعْبُدُوهُ مسبب عن مضمون الجملة فإن من جمع هذه الصفات كما هو المستحق للعبادة خاصة، وادعى بعضهم أن العبادة المأمور بها في نهاية الخضوع وهي لا تتأتى مع التشريك فلذا استغني عن أن يقال: فلا تعبدوا إلا إياه، ويفهم منه أن مجرد مفهوم العبادة يفيد الاختصاص، ولا يأباه دعوى إفادة تقديم المفعول في إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: ٥] إياه (١) لأن إفادة الحصر بوجهين لا مانع منها كما في فَلِلَّهِ الْحَمْدُ [الجاثية: ٣٦] ونحوه، وإنما قال سبحانه هنا: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وفي سورة المؤمن ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [غافر: ٦٢] فقدم سبحانه هنا لا إِلهَ إِلَّا هُوَ على خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وعكس هناك قال بعض المحققين لأن هذه الآية جاءت بعد قوله تعالى جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ إلخ فلما قال جل شأنه. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ أتى بعده بما يدفع الشركة فقال عز قائلا: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ثم خالق كل شيء وتلك جاءت بعد قوله سبحانه: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر: ٥٧] فكان الكلام على تثبيت خلق الناس وتقريره لا على نفي الشريك عنه جل شأنه كما كان في الآية الأولى فكان تقديم خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ هناك أولى والله تعالى أعلم بأسرار كلامه. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ عطف على الجملة السابقة أي وهو مع تلك الصفات الجليلة الشأن متولي جميع الأمور الدنيوية والأخروية، ويلزم من ذلك أن لا يوكل أمر إلى غيره ممن لا يتولى.

وجوز أن تكون هذه الجملة في موضع الحال وقيدا للعبادة ويؤول المعنى إلى أنه سبحانه مع ما تقدم متولي أموركم فكلوها إليه وتوسلوا بعبادته إلى إنجاح مأربكم، وفسر بعضهم الوكيل بالرقيب أي أنه تعالى رقيب على أعمالكم فيجازيكم عليها. واستدل أصحابنا بعموم خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ على أنه تعالى هو الخالق لأعمال العباد.

والمعتزلة قالوا: عندنا هنا أشياء تخرج أعمال العباد من البين. أحدها تعقيب ذلك العموم بقوله سبحانه:

فَاعْبُدُوهُ فإنه لو دخلت أعمال العباد هناك لصار تقدير الآية إنا خلقنا أعمالكم فافعلوها بأعيانها مرة أخرى وفساده ظاهر. ثانيها أن خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ذكر في معرض المدح والثناء ولا تمدح بخلق الزنا واللواطة والسرقة والكفر مثلا.

ثالثها أنه تعالى قال بعد: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وهو تصريح بكون العبد مستقلا بالفعل والترك وأنه لا مانع له. رابعها أن هذه الآية أتى بها بعد وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ والمراد منه على ما روي عن الحبر الرد على المجوس في إثبات الهين فيجب أن يكون خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ محمولا على إبطال ذلك وهو إنما يكون إذا قلنا: إنه تعالى هو الخالق لما في هذا العالم من السباع والآلام ونحوها وإذا حمل على ذلك لم تدخل أعمال العباد ولا يخفى ما في ذلك من النظر ومثله استدلالهم بالآية على نفي الصفات وكون القرآن مخلوقا فتدبر لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ جمع بصر يطلق كما قال الراغب على الجارحة الناظرة وعلى القوة التي فيها وعلى البصيرة. وهي قوة القلب المدركة وإدراك الشيء عبارة عن الوصول إلى غايته والإحاطة به، وأكثر المتكلمين على حمل البصر هنا على الجارحة من حيث إنها محل القوة. وقيل: هو إشارة إلى ذلك وإلى الأوهام والافهام كما

قال أمير


(١) هو مفعول إفادة اه. منه.

<<  <  ج: ص:  >  >>